فصل: التّعريف

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


حبس

التّعريف

1 - الحبس في اللّغة‏:‏ المنع والإمساك، مصدر حبس‏.‏ ويطلق على الموضع، وجمعه حبوس ‏(‏بضمّ الحاء‏)‏‏.‏ ويقال للرّجل‏:‏ محبوس وحبيس، وللجماعة‏:‏ محبوسون وحبس ‏(‏بضمّتين‏)‏، وللمرأة‏:‏ حبيسة‏:‏ وللجمع‏:‏ حبائس، ولمن يقع منه الحبس‏:‏ حابس‏.‏ أمّا في الاصطلاح فالحبس هو‏:‏ تعويق الشّخص ومنعه من التّصرّف بنفسه والخروج إلى أشغاله ومهمّاته الدّينيّة، والاجتماعيّة‏.‏ وليس من لوازمه الجعل في بنيان خاصّ معدّ لذلك، بل الرّبط بالشّجرة حبس، والجعل في البيت أو المسجد حبس‏.‏ وقد أفرد الحكّام المسلمون أبنية خاصّة للحبس وعدّوا ذلك من المصالح المرسلة‏.‏

2 - وبمعنى الحبس السّجن بفتح السّين مصدر سجن‏.‏ أمّا بكسر السّين فهو مكان الحبس، والجمع سجون‏.‏ وفي التّنزيل العزيز‏:‏ ‏{‏قال ربّ السّجن أحبّ إليّ ممّا يدعونني إليه‏}‏ قرئ بفتح السّين على المصدر، وبكسرها على المكان، والأشهر الكسر‏.‏

3 - وبمعنى الحبس أيضا الاعتقال‏.‏ يقال اعتقلت الرّجل حبسته، واعتقل لسانه إذا حبس ومنع من الكلام‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الحجر‏:‏

4 - الحجر ‏(‏بفتح فسكون‏)‏‏:‏ المنع‏.‏ إلاّ أنّ الفقهاء يريدون به‏:‏ المنع من التّصرّفات الماليّة كالحجر على السّفيه أو القوليّة كالحجر على المفتي الماجن‏.‏ أو العمليّة كالحجر على الطّبيب الجاهل‏.‏ والمراد من الحجر تعويق التّصرّف لا تعويق الشّخص الّذي يقصد حبسه‏.‏

ب - الحصر‏:‏

5 - الحصر ‏(‏بفتح فسكون‏)‏‏:‏ المنع والحبس‏.‏ ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلنا جهنّم للكافرين حصيرا‏}‏ أي سجنا وحبسا‏.‏ واستعمل الفقهاء الإحصار في المنع عن المضيّ في أفعال الحجّ، سواء أكان من العدوّ، أم بالحبس، أم بالمرض‏.‏ ويجتمع الحصر والحبس في أنّه يراد بهما المنع‏.‏‏.‏ ويفترق الحصر عن الحبس في أنّ المحصر قد يكون غير متمكّن منه بخلاف المحبوس‏.‏ فالصّلة بينهما العموم والخصوص‏.‏

ج - الوقف‏:‏

6 - الوقف‏:‏ الحبس، وجمعه أوقاف ووقوف وجمع الحبس هنا أحباس وحبس بضمّتين‏)‏‏.‏ وبعضهم يسكّن الباء على لغة‏.‏ وهو عند جمهور الفقهاء‏:‏ حبس العين على حكم ملك اللّه تعالى، والتّصدّق بالمنفعة على جهة من جهات البرّ ابتداء أو انتهاء‏.‏ فالفرق بين الحبس والوقف أنّ الحبس يكون في الأشخاص والوقف يكون في الأعيان‏.‏

د - النّفي‏:‏

7 - النّفي في اللّغة‏:‏ التّغريب والطّرد والإبعاد‏.‏ يرى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ المراد بالنّفي في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو ينفوا من الأرض‏}‏‏.‏ التّشريد من الأمصار والبلاد، فلا يترك قطّاع الطّرق ليأووا إلى بلد ‏;‏ لأنّ النّفي من الأرض هو الطّرد بحسب المشهور في لغة العرب‏.‏ وقال الحنفيّة وجماعة من الشّافعيّة والحنابلة وابن العربيّ من المالكيّة‏:‏ إنّ المراد به الحبس، لأنّ النّفي من جميع الأرض محال، وإلى بلد آخر فيه إيذاء أهلها، وهو ليس نفيا من الأرض بل من بعضها، واللّه تعالى يقول‏:‏ ‏{‏من الأرض‏}‏ فلم يبق إلاّ الحبس ‏;‏ لأنّ المحبوس في حقيقته بمنزلة المخرج من الدّنيا‏.‏ وقد أنشد في هذا المعنى‏:‏ خرجنا من الدّنيا ونحن من أهلها فلسنا من الأموات فيها ولا الأحيا إذا جاءنا السّجّان يوما لحاجة عجبنا وقلنا جاء هذا من الدّنيا وبهذا عمل عمر رضي الله عنه حين حبس رجلا وقال‏:‏ أحبسه حتّى أعلم منه التّوبة ولا أنفيه إلى بلد يؤذيهم‏.‏ مشروعيّة الحبس‏:‏

8 - اتّفق الفقهاء على مشروعيّة الحبس للنّصوص والوقائع الواردة في ذلك، وإن كان قد نقل عن بعضهم أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يسجن أحدا‏.‏ واستدلّ المثبتون بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏واللّاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهنّ أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهنّ في البيوت حتّى يتوفّاهنّ الموت أو يجعل اللّه لهنّ سبيلا‏}‏‏.‏ وللعلماء أقوال في نسخ هذه الآية منها‏:‏ أنّ الحبس نسخ في الزّنى فقط بالجلد والرّجم وبقي مشروعا في غير ذلك‏.‏ واستدلّوا أيضا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أو ينفوا من الأرض‏}‏‏.‏ وبقوله أيضا‏:‏ ‏{‏تحبسونهما من بعد الصّلاة فيقسمان باللّه‏}‏ ففي هذه الآية إرشاد إلى حبس من توجّب عليه الحقّ حتّى يؤدّيه‏.‏ والآية غير منسوخة لعمل أبي موسى الأشعريّ بها في الكوفة زمن إمارته وفي الحبس جاء قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وخذوهم واحصروهم‏}‏‏.‏ وتقدّم قريبا أنّ الحصر هو الحبس، والآية ليست منسوخة، وإلى مشروعيّة الأسر ذهب الفقهاء‏.‏ بل إنّ الأسير يسمّى مسجونا‏.‏ وفي آية أخرى‏:‏ ‏{‏حتّى إذا أثخنتموهم فشدّوا الوثاق‏}‏ وهي محكمة غير منسوخة عند المحقّقين، وفيها الأمر بتقييد الأسير، وهو في الحقيقة محبوس ومسجون‏.‏

9- وممّا يدلّ على مشروعيّة الحبس في السّنّة حديث‏:‏ ‏{‏ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته‏}‏ ويقصد بحلّ العرض‏:‏ إغلاظ القول والشّكاية، وبالعقوبة‏:‏ الحبس‏.‏ وهذا قول جماعة من فقهاء السّلف منهم‏:‏ سفيان ووكيع وابن المبارك وزيد بن عليّ‏.‏ وروي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ ‏{‏إذا أمسك الرّجل، الرّجل، وقتله الآخر، فيقتل الّذي قتل ويحبس الّذي أمسك‏}‏‏.‏ وبنحوه قضى عليّ رضي الله عنه حين أمر بقتل القاتل وحبس الممسك في السّجن حتّى يموت‏.‏ ويعرف هذا بالقتل صبرا أي الحبس حتّى الموت، وبه عمل النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين أمر بقتل القاتل وصبر الصّابر‏.‏ وروي ‏{‏أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حبس رجلا في تهمة‏}‏، وفيه مشروعيّة الحبس ولو بتهمة‏.‏ وروي ‏{‏أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم حبس أحد رجلين من غفار اتّهما بسرقة بعيرين، وقال للآخر‏:‏ اذهب فالتمس، فذهب وعاد بهما‏}‏‏.‏

10 - وأجمع الصّحابة ومن بعدهم على مشروعيّة الحبس، وقد حبس الخلفاء الرّاشدون وابن الزّبير والخلفاء والقضاة من بعدهم في جميع الأعصار والأمصار من غير إنكار، فكان ذلك إجماعا‏.‏

11 - وتدعو الحاجة - عقلا - إلى إقرار الحبس، للكشف عن المتّهم‏.‏ ولكفّ أهل الجرائم المنتهكين للمحارم، الّذين يسعون في الأرض فسادا ويعتادون ذلك، أو يعرف منهم، ولم يرتكبوا ما يوجب الحدّ والقصاص‏.‏

أنواع الحبس

12 - ينقسم الحبس بحسب كلام الفقهاء إلى ما كان بقصد العقوبة، وإلى ما كان بقصد الاستيثاق‏.‏ الحبس بقصد العقوبة والتّعزير وموجباته‏:‏

13 - الحبس بقصد العقوبة يكون في الأفعال والجرائم الّتي لم تشرع فيها الحدود، سواء أكان فيها حقّ اللّه تعالى أم كان فيها حقّ الآدميّ، والأصل في هذا أنّ الحبس فرع من التّعزير‏.‏ وذكر القرافيّ المالكيّ وابن عبد السّلام الشّافعيّ بضع قواعد يشرع فيها الحبس، منها خمس يشرع فيها الحبس تعزيرا وهي‏:‏ حبس الممتنع من دفع الحقّ إلجاء إليه، وحبس الجاني ردعا عن المعاصي، وحبس الممتنع من التّصرّف الواجب الّذي لا تدخله النّيابة كحبس من أسلم على أختين حتّى يختار إحداهما، وحبس من أقرّ بمجهول وامتنع من تعيينه، وحبس الممتنع من حقّ اللّه تعالى الّذي لا تدخله النّيابة كالصّلاة والصّوم‏.‏

جمع الحبس تعزيرا مع عقوبات أخرى

14 - ذهب الفقهاء إلى جواز جمع الحبس تعزيرا مع غيره من عقوبات‏.‏ وذكروا أمثلة لجمعه مع الحدّ من مثل‏:‏ جلد الزّاني البكر مائة حدّا وحبسه سنة تعزيرا للمصلحة‏.‏ وعند المالكيّة‏:‏ حبسه سنة منفيّا‏.‏

15 - ومن أمثلة الجمع بين الحبس والقصاص‏:‏ حبس من جرح غيره جراحة لا يستطاع في مثلها قصاص، والحكم عليه بالأرش ‏(‏التّعويض‏)‏ بدلا منه‏.‏

16 - ومن أمثلة الجمع بين الحبس والكفّارة‏:‏ حبس القاضي من ظاهر زوجته حتّى يكفّر عن ظهاره دفعا للضّرر عن الزّوجة‏.‏ وحبس الممتنع من أداء الكفّارات عامّة حتّى يؤدّيها في أحد قولي الشّافعيّة‏.‏

17 - وقرّر الفقهاء مشروعيّة الجمع بين الحبس تعزيرا وبين غيره من أنواع التّعزير، ومن ذلك‏:‏ تقييد السّفهاء والمفسدين في سجونهم‏.‏ وحبس من طلّق في الحيض وضربه في سجنه حتّى يراجع زوجته عند المالكيّة‏.‏ وضرب المحبوس الممتنع من أداء الحقوق الواجبة‏.‏ وحلق رأس شاهد الزّور وحبسه‏.‏ حبس القاتل عمدا - إذا عفي عنه - مع جلده مائة‏.‏ وقد فوّض الشّرع الحاكم في جمع الحبس مع عقوبات أخرى لأنّ أحوال النّاس في الانزجار مختلفة‏.‏

مدّة الحبس تعزيرا

18 - لمدّة الحبس بقصد التّعزير حدّ أدنى وحدّ أعلى بحسب حال الجاني وجريرته‏:‏

أ - أقلّ المدّة‏:‏

19 - في كلام بعض الشّافعيّة أنّ أقلّ مدّة الحبس يحصل حتّى بالحبس عن حضور صلاة الجمعة‏.‏ وقال آخرون‏:‏ أقلّ مدّة الحبس تعزيرا يوم واحد‏.‏ ويقصد به تعويق المحبوس عن التّصرّف بنفسه ليضجر وينزجر ‏;‏ لأنّ بعض النّاس يتأثّر بحبس يوم فيغتمّ‏.‏

ب - ‏(‏أكثر المدّة‏)‏‏:‏

20 - جمهور الفقهاء ‏(‏الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة‏)‏ لم يقدّروا حدّا أعلى للحبس بقصد التّعزير، وفوّضوا ذلك إلى القاضي، فيحكم بما يراه مناسبا لحال الجاني ‏;‏ لأنّ التّعزير - والحبس فرع منه - مبنيّ على ذلك، فيجوز للقاضي استدامة حبس من تكرّرت جرائمه وأصحاب الجرائم الخطيرة‏.‏ وللشّافعيّة ثلاثة أقوال‏:‏ أحدها للزّبيريّ، وقدّر أكثر الحبس بستّة أشهر‏.‏ والقول الثّاني‏:‏ وهو مشهور المذهب‏:‏ سنة، تشبيها للحبس بالنّفي المذكور في الحدّ‏.‏ والقول الثّالث لإمام الحرمين‏:‏ وافق فيه الجمهور في عدم تحديد أكثر المدّة‏.‏ وقد أجاز بعض الشّافعيّة العمل بمذهب الجمهور على أن يكون الحامل على ذلك المصلحة لا التّشهّي والانتقام‏.‏

التّمييز بين الحبس القصير والحبس الطّويل

21 - ميّز الفقهاء بين الحبس القصير والحبس الطّويل، فسمّوا ما كان أقلّ من سنة قصيرا، وما كان سنة فأكثر طويلا‏.‏ وقضوا على أصحاب الجرائم غير الخطيرة بالحبس القصير كحبس شاتم جيرانه ثلاثة أيّام‏.‏ وحبس تارك الصّيام مدّة شهر رمضان‏.‏ وقضوا على أصحاب الجرائم الخطيرة ومعتادي الإجرام بالحبس الطّويل‏.‏ من مثل‏:‏ حبس الزّاني البكر سنة بعد حدّه‏.‏ وكذا من جرح غيره جراحة لا يستطاع في مثلها قصاص يحكم عليه بالحبس ويطال حبسه‏.‏ وقد سجن عثمان رضي الله عنه ضابئ بن الحارث التّميميّ حتّى مات في محبسه وكان من شرار اللّصوص‏.‏

إبهام مدّة الحبس

22 - الأصل أن تحدّد مدّة الحبس عند الحكم‏.‏ وإلى جانب ذلك أجاز الفقهاء إبهام المدّة وعدم تعريف المحبوس بها، وتعليق انتهائها على توبته وصلاحه، وذلك من مثل‏:‏ حبس المسلم الّذي يبيع الخمر حتّى يتوب‏.‏ وحبس المسلم الّذي يتجسّس للعدوّ‏.‏ وحبس المخنّث والمرابي‏.‏ وحبس البغاة حتّى تعرف توبتهم‏.‏ ومن لم ينزجر بحدّ الخمر فللوالي حبسه حتّى يتوب‏.‏

الحبس المؤبّد

23 - ذكر الفقهاء وقائع ونصوصا تدلّ على مشروعيّة الحبس المؤبّد، من ذلك‏:‏ أنّ عثمان رضي الله عنه حبس ضابئ بن الحارث حتّى مات في سجنه‏.‏ وأنّ عليّا قضى بحبس من أمسك رجلا ليقتله آخر أن يحبس حتّى الموت‏.‏ وكذا يحبس مدى الحياة من يعمل عمل قوم لوط‏.‏ والدّاعي إلى البدعة‏.‏ ومزيّف النّقود‏.‏ ومن تكرّرت جرائمه‏.‏ والعائد إلى السّرقة في الثّالثة بعد حدّه في المرّة الأولى والثّانية‏.‏ ومن يكثر إيذاء النّاس‏.‏ والمتمرّد العاتي‏.‏ ومدمن الخمر‏.‏

أسباب سقوط الحبس تعزيرا وقطع مدّته

24 - سقوط الحبس يقصد به توقيف تنفيذه بعد النّطق به، سواء أبدئ بتنفيذ بعضه أم لم يبدأ‏.‏ وأسباب سقوط الحبس هي‏:‏ أ - ‏(‏الموت‏)‏‏:‏

25 - ينتهي الحبس بموت الجاني لانتهاء موضع التّكليف، ولأنّ المقصود تعويق الشّخص وقد فات، ولا يتصوّر استيفاء الحبس بعد انعدام المحلّ‏.‏

ب - ‏(‏الجنون‏)‏‏:‏

26 - جمهور الفقهاء ‏(‏الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة‏)‏ على أنّ الجنون الطّارئ بعد الجريمة يوقف تنفيذ الحبس ‏;‏ لأنّ المجنون ليس مكلّفا ولا أهلا للعقوبة والتّأديب، وهو لا يعقل المقصود من الحبس لفقده الإدراك‏.‏ ومذهب الحنابلة - وهو قول أبي بكر الإسكافيّ من الحنفيّة - أنّ الجنون لا يوقف تنفيذ التّعزير - والحبس فرع منه - وعلّلوا ذلك بأنّ الغاية منه التّأديب والزّجر، فإذا تعطّل جانب التّأديب بالجنون فلا ينبغي تعطيل جانب الزّجر منعا للغير‏.‏

ج - ‏(‏العفو‏)‏‏:‏

27 - إذا كان الحبس لحقّ آدميّ سقط بعفوه‏.‏ وضربوا مثالا لذلك بالمدين المحبوس لحقّ الدّائن‏.‏

د - ‏(‏الشّفاعة‏)‏‏:‏

28 - تجوز الشّفاعة للمحكوم عليه بالحبس تعزيرا قبل البدء بتنفيذ الحكم وبعده، وذلك إذا لم يكن صاحب أذى، لما فيها من دفع الضّرر‏.‏ ويجوز للحاكم ردّ الشّفاعة إن لم تكن فيها مصلحة، وقد ردّ عمر رضي الله عنه الشّفاعة في معن بن زائدة حين حبسه لتزويره خاتمه‏.‏ وقال الزّركشيّ‏:‏ إطلاق استحباب الشّفاعة في التّعزير فيه نظر ‏;‏ لأنّ المستحقّ إذا أسقط حقّه من التّعزير كان للإمام ‏;‏ لأنّه شرع للإصلاح وقد يرى ذلك في إقامته وفي مثل هذه الحالة لا ينبغي استحبابها‏.‏

29 - وكان من اليسير في الزّمن السّابق قبول الشّفاعة في المحبوس ‏;‏ لأنّ القاضي كان يشرف إشرافا مباشرا على تنفيذ الأحكام، وكان للقضاة سجون تنسب إليهم فيقال‏:‏ سجن القاضي كما يقال‏:‏ سجن الوالي‏.‏ هـ - ‏(‏التّوبة‏)‏‏:‏

30 - ليس لتوبة المحبوس ونحوه زمن محدّد تعرف به، بل يعود تقدير إمكانيّة حصولها إلى ما يظهر من قرائن نتيجة المراقبة والتّتبّع‏.‏ وقد ذكر الفقهاء‏:‏ أنّ للحاكم أن يأخذ أهل الجرائم بالتّوبة إجبارا ويظهر من الوعيد عليهم ما يقودهم إليها طوعا‏.‏ ومن الأسباب المعينة على التّوبة تمكين أهل المحبوس وجيرانه من زيارته‏.‏ فذلك يفضي إلى تحصيل المقصود كردّ الحقوق إلى أصحابها، وذلك توبة‏.‏

31 - على أنّ هناك جرائم جسيمة وخطيرة تستلزم سرعة ظهور التّوبة لما في الإصرار على الذّنب من آثار خطيرة، ومن ذلك‏:‏ الرّدّة الّتي حدّدت مدّة التّوبة منها بثلاثة أيّام عند جمهور الفقهاء‏.‏ ويقال مثل ذلك في السّحر، وترك الصّلاة كسلا عند غير الحنفيّة‏.‏ أمّا إذا حبس الزّاني البكر بعد حدّه وظهرت توبته قبل السّنة فلا يخرج حتّى تنقضي، لأنّها بمعنى الحدّ عند المالكيّة‏.‏

طهارة المحبوس من ذنبه بالحبس تعزيرا

32 - يبدو من كلام كثير من الفقهاء‏:‏ أنّ التّعزير - والحبس فرع منه - ليس فيه معنى تكفير الذّنب ‏;‏ لأنّه شرع للزّجر المحض، وهذا بخلاف الحدود فهي كفّارات لموجباتها وأهلها‏.‏ وذكر الشّوكانيّ‏:‏ أنّ العقوبة عامّة كفّارة لموجبها في الآخرة ‏{‏لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم للأنصار بعد مبايعتهم له على أن لا يشركوا باللّه شيئا ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم‏:‏ ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب به في الدّنيا فهو كفّارة له‏}‏‏.‏ ثمّ قال الشّوكانيّ‏:‏ وقوله‏:‏ عوقب به أعمّ من أن تكون العقوبة حدّا أو تعزيرا لدخول قتل الأولاد‏.‏

الحبس للاستيثاق

33 - الاستيثاق لغة‏:‏ إحكام الأمر وأخذه بالشّيء الموثوق به‏.‏ ويذكره العلماء أثناء الكلام على الحبس‏.‏ ويريدون به‏:‏ تعويق الشّخص ومنعه من التّصرّف بنفسه بقصد الاستيثاق، وضمان عدم الهرب لا بقصد التّعزير والعقوبة‏.‏ وبعد تتبّع ما ذكره الفقهاء، يمكن تقسيم هذا النّوع من الحبس إلى ثلاثة أقسام‏:‏ الحبس للتّهمة، والحبس للاحتراز، والحبس لتنفيذ عقوبة أخرى‏.‏

الحبس بسبب التّهمة

34 - التّهمة في مجمل كلام الفقهاء‏:‏ إخبار بحقّ للّه أو لآدميّ على مطلوب تعذّرت إقامة الحجّة الشّرعيّة عليه في غالب الأحوال‏.‏ والحبس استيثاقا بتهمة هو‏:‏ تعويق ذي الرّيبة عن التّصرّف بنفسه حتّى يبين أمره فيما ادّعي عليه من حقّ اللّه أو الآدميّ المعاقب عليه‏.‏ ويقال له أيضا حبس الاستظهار ليكتشف به ما وراءه‏.‏ مشروعيّة الحبس بتهمة وحالاته‏:‏

35 - استدلّ لمشروعيّة حبس التّهمة بقوله تعالى فيمن اتّهم بعدم القيام بالحقّ ‏{‏تحبسونهما من بعد الصّلاة‏}‏ وبأنّ ‏{‏النّبيّ صلى الله عليه وسلم حبس أحد الغفاريّين بتهمة سرقة بعيرين ثمّ أطلقه‏}‏‏.‏ وروي عن عليّ رضي الله عنه أنّه حبس متّهمين حتّى أقرّوا‏.‏

36 - وذهب جمهور الفقهاء إلى مشروعيّة حبس التّهمة‏.‏ واعتبروه من السّياسة العادلة إذا تأيّدت التّهمة بقرينة قويّة، أو ظهرت أمارات الرّيبة على المتّهم أو عرف بالفجور‏.‏ من مثل ‏{‏ما وقع لابن أبي الحقيق حين أخفى كنزا يوم خيبر، وادّعى ذهابه بالنّفقة، فحبسه النّبيّ صلى الله عليه وسلم وردّ عليه بقوله‏:‏ العهد قريب والمال أكثر فكان ذلك قرينة على كذبه، ثمّ أمر الزّبير أن يمسّه بعذاب حتّى ظهر الكنز‏}‏‏.‏ وفي نحو هذا يقول عمر بن عبد العزيز‏:‏ المتاع يوجد مع الرّجل المتّهم فيقول ابتعته، فاشدده في السّجن وثاقا ولا تحلّه حتّى يأتيه أمر اللّه‏.‏ وذلك إذا جرت العادة أن لا يتحصّل ذلك المتاع لمثل هذا المتّهم‏.‏ وإذا قامت القرائن وشواهد الحال على أنّ المتّهم بسرقة - مثلا - كان ذا عيارة - كثير التّطواف والمجيء والذّهاب - أو في بدنه آثار ضرب، أو كان معه حين أخذ منقّب، قويت التّهمة وسجن‏.‏

37 - وقد فصّل القائلون بحبس التّهمة ما يتعلّق به من أحكام فذكروا‏:‏ أنّه تختلف أحكام حبس المتّهم باختلاف حاله، فإذا لم يكن من أهل تلك التّهمة ولم تقم قرينة صالحة على اتّهامه فلا يجوز حبسه ولا عقوبته اتّفاقا‏.‏ وإن كان المتّهم مجهول الحال لا يعرف ببرّ ولا فجور، فهذا يحبس حتّى ينكشف حاله عند جمهور الفقهاء‏.‏ وإن كان المتّهم معروفا بالفجور والسّرقة والقتل ونحو ذلك جاز حبسه، بل هو أولى ممّن قبله‏.‏ فإن تعارضت الأقوال في المتّهم أخذ بخبر من شهد له بالخير آخرا، سئل ابن خزيمة وابن الحارث من المالكيّة عن رجل شهد عليه جماعة بالفساد والرّيبة، وشهد عليه آخرون بالصّلاح والخير ومجانبة أهل الرّيب ومتابعة شغله ومعاشه فأجابا‏:‏ تقدّم شهادة الآخرين إذا لم يعلموا رجوعه عن أحواله الحسنة إلى حين شهادتهم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ الحسنات يذهبن السّيّئات‏}‏‏.‏

38 - وذكر بعض فقهاء الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ أنّ ما كان الحبس فيه أقصى عقوبة كالأموال فلا يحبس المتّهم حتّى تثبت بحجّة كاملة‏.‏ وعند سحنون وغيره‏:‏ ما كان أقصى عقوبة فيه غير الحبس كالحدود والقصاص حيث الأقصى فيها القطع أو القتل أو الجلد فيجوز حبس المتّهم فيها بشهادة حتّى تكتمل الحجّة ‏;‏ ولئلاّ يتّهم القاضي بالتّهاون، وذلك حرام يفضي إلى فساد العالم‏.‏ ومثال ذلك‏:‏ حبس المتّهم بالسّكر حتّى يعدل الشّهود‏.‏ وذهب القاضي شريح وأبو يوسف وإمام الحرمين إلى منع الحبس بتهمة إلاّ ببيّنة تامّة، وروي أنّ شريحا استحلف متّهما - بأخذ مال رجل غنيّ مات في سفر - وخلّى سبيله‏.‏ وروى أبو يوسف أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان لا يأخذ النّاس بالقرف ‏(‏التّهمة‏)‏‏.‏ فإذا اضطرّ القاضي إلى بعض الحالات يأخذ من المدّعى عليه كفيلا ليمكنه إحضاره‏.‏ وذكر إمام الحرمين‏:‏ أنّ الشّرع لا يرخّص في معاقبة أصحاب التّهم قبل إلمامهم بالسّيّئات‏.‏ وروي أنّ عمر رفض أن يؤتى بمتّهم مصفّد بغير بيّنة‏.‏

الجهة الّتي يحقّ لها الحبس بتهمة

39 - للفقهاء قولان فيمن يملك سلطة الحبس بتهمة‏:‏ القول الأوّل‏:‏ ليس للقاضي الحبس بتهمة، وإنّما ذلك للوالي، وهذا قول الزّبيريّ صاحب الشّافعيّ والماورديّ وغيرهما، وطائفة من أصحاب أحمد، والقرافيّ من المالكيّة‏.‏ وحجّتهم فيما ذهبوا إليه أنّ هذا التّصرّف من السّياسة الشّرعيّة الّتي يملكها الإمام والوالي لا القاضي، إذ ليس للقاضي أن يحبس أحدا إلاّ بحقّ وجب‏.‏ القول الثّاني‏:‏ للوالي وللقاضي أن يحبسا بتهمة، وهو قول مالك وأصحابه، وأحمد ومحقّقي أصحابه، وذكره فقهاء الحنفيّة‏.‏ واستدلّ هؤلاء بأنّ عموم الولايات وخصوصها وما يستفيده المتولّي بالولاية راجع إلى الألفاظ والأحوال والعرف، وليس لذلك حدّ في الشّرع، فقد يدخل في ولاية القضاء في بعض الأزمنة والأمكنة ما يدخل في ولاية الحرب في زمان ومكان آخر وبالعكس‏.‏

مدّة الحبس بتهمة

40 - لا حدّ لأقلّ مدّة الحبس‏.‏ أمّا أكثره فيرجع فيه إلى اجتهاد الحاكم حتّى ينكشف حال المتّهم، وقد نسب ابن تيميّة هذا القول إلى مالك وأصحابه وأحمد ومحقّقي أصحابه وأصحاب أبي حنيفة‏.‏ ونصّ المالكيّة على أنّه لا يطال سجن مجهول الحال، والحبس الطّويل عندهم ما زاد على سنة‏.‏ وقال بعض الفقهاء‏:‏ إنّ أكثر مدّة يحبس فيها المتّهم المجهول الحال يوم واحد‏.‏ وحدّدها قوم بيومين وثلاثة، وأجاز آخرون بلوغها شهرا‏.‏ أمّا المتّهم المعروف بالفجور والفساد فأكثر مدّة حبسه بحسب ما يقتضيه ظهور حاله والكشف عنه ولو حبس حتّى الموت، وهذا هو الظّاهر في مذاهب فقهاء الأمصار من الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏ ونقل هذا أيضا عن عمر بن عبد العزيز ومطرّف وابن الماجشون من فقهاء المالكيّة وغيرهم‏.‏ إلاّ أنّه روي عن مالك أنّه قال‏:‏ لا يحبس حتّى الموت‏.‏ وقال الزّبيريّ صاحب الشّافعيّ‏:‏ غاية حبس المتّهم المعروف بالفجور والفساد شهر واحد، وحكي هذا عن غيره أيضا‏.‏

الحبس للاحتراز

41 - الاحتراز لغة‏:‏ التّحفّظ على الشّيء توقّيا‏.‏ وليس للحبس الاحترازيّ تعريف خاصّ به مع ما ذكروا له من وقائع عديدة‏.‏ ويقصد به‏:‏ التّحفّظ للمصلحة العامّة على من يتوقّع حدوث ضرر بتركه، ولا يستلزم وجود تهمة‏.‏ 42 - وممّا ذكره الفقهاء من هذا النّوع‏:‏ حبس العائن الّذي يضرّ النّاس بعينه احترازا من أذاه، وحبس نساء البغاة وصبيانهم تحفّظا عليهم من المشاركة في البغي، مع أنّهم ليسوا من أهل القتال‏.‏ وكان شريح القاضي يحبس من عليه الحقّ في المسجد مؤقّتا إلى أن يقوم من مجلسه، فإن لم يعط الحقّ أمر به إلى السّجن‏.‏

الحبس بقصد تنفيذ عقوبة

43 - إذا حال دون تنفيذ العقوبة المحكوم بها أمر عارض أرجئ التّنفيذ حتّى يزول العذر، فإذا خيف هرب المطلوب تنفيذ العقوبة عليه جاز حبسه‏.‏

44 - ومن ذلك أنّه يؤخّر المريض‏.‏ والحامل‏.‏ والنّفساء‏.‏ والمرضع‏.‏ والمظنون حملها حتّى تستبرئ‏.‏ والمجروح والمضروب‏.‏ والسّكران حتّى يصحّوا إجماعا‏.‏ ومن اجتمعت عليه حدود ليس فيها الرّجم حبس بعد استيفاء كلّ واحد ليخفّ عليه ما بعده‏.‏ واتّفقوا على تأخير القصاص من القاتل إذا كان في الأولياء غائب حتّى يحضر‏.‏ ونصّ المالكيّة والشّافعيّة على حبسه حتّى حضور الوليّ الغائب‏.‏ ومذهب الشّافعيّة والحنابلة أنّ القاتل يحبس إذا كان في الأولياء صغير حتّى يبلغ أو مجنون حتّى يفيق‏.‏ وقال ابن أبي ليلى في الصّغير مثل ذلك ومن جرح آخر حبس حتّى يبرأ المجروح إن كان في الجرح قصاص‏.‏ ومن حكم عليه بالقتل أو القطع قصاصا حبس ليتمكّن من تنفيذه، سواء ثبت بالبيّنة أو بالاعتراف‏.‏ ويجوز للحاكم حبس قاطع الطّريق حتّى يستوفي العقوبة‏.‏ وينتظر لجلد المعذور اعتدال هواء فلا يجلد في برد وحرّ مفرطين خوف الهلاك، ونصّ الحنفيّة على حبسه أثناء العذر، وذكر الشّافعيّة أنّ من ثبت زناه بالبيّنة وأمن هربه لم يحبس‏.‏

ضوابط موجبات الحبس عامّة عند الفقهاء

45 - ذكر القرافيّ ثمانية ضوابط في موجبات الحبس، ونسب بعضها إلى عزّ الدّين بن عبد السّلام الشّافعيّ، وهذه الثّمانية هي‏:‏

1 - حبس الجاني لغيبة وليّ المجنيّ عليه حفظا لمحلّ القصاص‏.‏

2 - حبس الآبق سنة حفظا للماليّة رجاء أن يعرف مالكه‏.‏

3 - حبس الممتنع من دفع الحقّ إلجاء إليه‏.‏

4 - حبس من أشكل أمره في العسر واليسر اختبارا لحاله، فإذا ظهر حاله حكم عليه بموجبه عسرا أو يسرا‏.‏

5- حبس الجاني تعزيرا وردعا عن معاصي اللّه تعالى‏.‏ 6 - حبس من امتنع من التّصرّف الواجب الّذي لا تدخله النّيابة كمن أسلم على أختين أو أكثر من أربع نسوة، أو امرأة وابنتها، وامتنع من ترك ما لا يجوز له‏.‏

7- حبس من أقرّ بمجهول عين أو في الذّمّة وامتنع من تعيينه، فيحبس حتّى يعيّنه فيقول‏:‏ العين هو هذا الثّوب، أو الشّيء الّذي في ذمّتي وأقررت به هو دينار‏.‏

8- حبس الممتنع من حقّ اللّه تعالى الّذي لا تدخله النّيابة عند الشّافعيّة والمالكيّة كالصّوم والصّلاة فيقتل فيه، ولا يدخل الحجّ في هذا مراعاة للقول بوجوبه على التّراخي‏.‏

9- زاد الشّيخ محمّد عليّ حسين المالكيّ سببا آخر، فقال‏:‏ والتّاسع‏:‏ من يحبس اختبارا لما ينسب إليه من السّرقة والفساد‏.‏

10 - وذكر آخرون سببا عاشرا فقالوا‏:‏ والعاشر حبس المتداعى فيه لحفظه حتّى تظهر نتيجة الدّعوى، كامرأة ادّعى رجلان نكاحها فتحبس في بيت عند امرأة صالحة، وإلاّ ففي حبس القاضي‏.‏

الأحوال الّتي يشرع فيها الحبس‏:‏ حالات الحبس بسبب الاعتداء على النّفس وما دونها‏:‏

أ - حبس القاتل عمدا لعدم المكافأة في الدّم بينه وبين المقتول‏:‏

46 - مذهب المالكيّة وابن شهاب الزّهريّ حبس القاتل عمدا سنة وضربه مائة إذا سقط القصاص بعدم التّكافؤ كالحرّ يقتل العبد، والمسلم يقتل الذّمّيّ أو المستأمن‏.‏ لما روي أنّ ‏{‏رجلا قتل عبده متعمّدا فجلده النّبيّ صلى الله عليه وسلم مائة جلدة ونفاه سنة، ومحا سهمه من المسلمين، ولم يقده، وأمره أن يعتق رقبة‏}‏‏.‏ ونقل عن أبي بكر وعمر رضي الله عنهما نحو ذلك‏:‏ ومثله فعل عمر بن عبد العزيز رحمه الله‏.‏ ولا يرى جمهور الفقهاء الحبس هنا، بل ذهب الحنفيّة إلى وجوب القصاص في هذه الحالة وعند الشّافعيّة والحنابلة، تجب الدّية فقط‏.‏

ب - حبس القاتل المعفوّ عنه في القتل العمد‏:‏

47 - مذهب الجمهور ‏(‏الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏)‏ وبعض فقهاء السّلف كأبي ثور وإسحاق وعطاء وابن رشد من المالكيّة أنّ القاتل عمدا لا يحبس إذا عفي عنه، إلاّ إذا عرف بالشّرّ فيؤدّبه الإمام على قدر ما يرى في قول أبي ثور‏.‏ ومذهب المالكيّة أنّه يجلد مائة ويسجن سنة، وهو المرويّ عن عمر رضي الله عنه، وبه قال أهل المدينة واللّيث بن سعد والأوزاعيّ‏.‏

ج - حبس المتسبّب في القتل العمد دون مباشرته‏:‏

48 - من الأمثلة المذكورة في هذا‏:‏ أنّ من أمسك رجلا لآخر ليقتله يقتصّ من القاتل ويحبس الممسك، وهذا مذهب الجمهور ‏(‏الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏)‏ وهو المرويّ عن عليّ رضي الله عنه، وبه قال عطاء وربيعة لحديث‏:‏ ‏{‏يصبر الصّابر ويقتل القاتل‏}‏‏.‏ ومذهب مالك وهو رواية عن أحمد أنّ القود على القاتل والممسك لاشتراكهما في القتل، إلاّ إذا لم يعرف الممسك أنّ صاحبه سيقتل فيحبس سنة ويضرب مائة‏.‏ ومن كتّف إنسانا وطرحه في أرض مسبعة أو ذات حيّات فقتلته يحبس عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، وقال بعض الحنفيّة‏:‏ حتّى يموت‏.‏ ومن تبع رجلا ليقتله فهرب منه فأدركه آخر فقطع رجله، ثمّ أدركه الأوّل فقتله، فإن كان قصد القاطع حبسه بالقطع ليقتله الأوّل فعليه القصاص في القطع، ويحبس ‏;‏ لأنّه كالممسك بسبب قطع رجل المقتول‏.‏

د - حبس الجاني على ما دون النّفس بالجرح ونحوه لتعذّر القصاص‏:‏

49 - من جرح غيره جراحة لا يستطاع في مثلها قصاص حكم عليه بالأرش، وعوقب وأطيل حبسه حتّى يحدث توبة ثمّ يخلّى عنه‏.‏ ومثل ذلك في فقء العين‏.‏

هـ - الحبس لتعذّر القصاص في الضّرب واللّطم‏:‏

50 - نصّ الحنفيّة والمالكيّة على إطالة حبس من ضرب غيره بغير حقّ، إذا احتاج إلى زيادة تأديب لعظيم ما اقترف‏.‏ وقال آخرون‏:‏ بالتّعزير عامّة‏.‏ وذهب ابن تيميّة إلى القصاص في ذلك‏.‏

و - حبس العائن‏:‏

51 - ينبغي للحاكم أمر العائن بالكفّ عن حسده وإيذاء النّاس بعينه، فإن أبى فله منعه من مداخلة النّاس ومخالطتهم، ويكون ذلك بحبسه في بيته والإنفاق عليه من بيت المال إن كان فقيرا دفعا لضرره عن النّاس، وهذا مذهب جمهور الفقهاء‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ يحبس في السّجن حتّى يكفّ عن حسده وتصفو نفسه بالتّوبة‏.‏

ز - حبس المتستّر على القاتل ونحوه‏:‏

52 - ذكر ابن تيميّة أنّ من آوى قاتلا ونحوه ممّن وجب عليه حدّ أو حقّ للّه تعالى أو لآدميّ، ومنعه ممّن يستوفي منه الواجب بلا عدوان فهو شريكه في الجرم، وقد لعنه اللّه ورسوله، ويعاقب بالحبس والضّرب حتّى يمكّن منه أو يدلّ عليه، لتركه واجب التّعاون على البرّ والتّقوى‏.‏

ح - الحبس لحالات تتّصل بالقسامة‏:‏

53 - ممّا يتّصل بالحبس في القسامة‏:‏ أنّ من تجب عليه القسامة يحبس إذا امتنع من الحلف حتّى يحلف، وهذا مذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة وأحد قولي الحنابلة، لكن أشهب من المالكيّة حدّد مدّة الحبس في ذلك بسنة، فإن حلف وإلاّ أطلق وكانت عليه الدّية من ماله‏.‏ وقال أبو يوسف وهو القول الآخر للحنابلة‏:‏ لا يحبس من تجب عليه القسامة لنكوله، ولكن تؤخذ منه الدّية‏.‏

ط - حبس من يمارس الطّبّ من غير المختصّين‏:‏

54 - نصّ المالكيّة على أنّ الطّبيب إذا لم يكن من أهل المعرفة وأخطأ في فعله يضرب ويحبس‏.‏ وقال الحنفيّة‏:‏ يحجر على الطّبيب الجاهل، وذلك بمنعه من عمله حسّا مخافة إفساد أبدان النّاس‏.‏

حالات الحبس بسبب الاعتداء على الدّين وشعائره

أ - ‏(‏الحبس للرّدّة‏)‏‏:‏

55 - إذا ثبتت ردّة المسلم حبس حتّى تكشف شبهته ويستتاب‏.‏ وقد اختلف الفقهاء في حكم هذا الحبس على قولين‏:‏ القول الأوّل‏:‏ إنّ حبس المرتدّ لاستتابته قبل قتله واجب، وهذا مذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏ واستدلّوا لذلك بما روي عن عمر رضي الله عنه أنّه أخبر عن قتل رجل كفر بعد إسلام فقال لقاتليه‏:‏ أفلا حبستموه ثلاثة أيّام وقدّمتم له خبزا، فإن لم يتب قتلتموه‏.‏‏.‏ اللّهمّ إنّي لم أحضر ولم آمر ولم أرض إذ بلغني‏.‏ فلو كان حبسه غير واجب لما أنكر عليهم، ولما تبرّأ من عملهم، وقد سكت الصّحابة على قول عمر فكان إجماعا سكوتيّا‏.‏ ثمّ إنّ استصلاح المرتدّ ممكن بحبسه واستتابته فلا يجوز إتلافه قبل ذلك‏.‏ وبنحو هذا فعل عليّ رضي الله عنه‏.‏ القول الثّاني‏:‏ إنّ حبس المرتدّ لاستتابته قبل قتله مستحبّ لا واجب، وهذا مذهب الحنفيّة، والمنقول عن الحسن البصريّ وطاوس، وبه قال بعض المالكيّة لحديث‏:‏ ‏{‏من بدّل دينه فاقتلوه‏}‏ ولأنّه يعرف أحكام الإسلام، وقد جاءت ردّته عن تصميم وقصد، ومن كان كذلك فلا يجب حبسه لاستتابته بل يستحبّ طمعا في رجوعه الموهوم‏.‏ وقد روي في هذا أنّ أبا موسى الأشعريّ بعث أنس بن مالك إلى عمر بن الخطّاب يخبره بفتح تستر، فسأله عمر عن قوم من بني بكر بن وائل‏:‏ ما أخبارهم‏؟‏ فقال أنس‏:‏ إنّهم ارتدّوا عن الإسلام ولحقوا بالمشركين ما سبيلهم إلاّ القتل‏.‏ فقال عمر‏:‏ لأن آخذهم سلما أحبّ إليّ ممّا طلعت عليه الشّمس‏.‏ فقال أنس‏:‏ وما تصنع بهم‏؟‏ قال عمر‏:‏ أعرض عليهم أن يرجعوا إلى الإسلام فإن فعلوا وإلاّ استودعتهم السّجن‏.‏ ويروى في هذا أيضا أنّ معاذ بن جبل قدم على أبي موسى اليمن فوجد عنده رجلا موثقا فقال‏:‏ ما هذا‏؟‏ قال‏:‏ رجل كفر بعد إسلام، ثمّ دعاه إلى الجلوس فقال معاذ‏:‏ لا أجلس حتّى يقتل هذا - ثلاث مرّات - قضاء اللّه ورسوله، فأمر به فقتل‏.‏ وفي المرتدّ الّذي يحبس، ومدّة حبسه ومسائل أخرى تتعلّق بالمرتدّ تفصيلات تنظر في مصطلح‏:‏ ‏(‏ردّة‏)‏‏.‏

ب - ‏(‏الحبس للزّندقة‏)‏‏:‏

56 - يطلق لفظ الزّنديق على كلّ من أسرّ الكفر وأظهر الإيمان حتّى بدر منه ما يدلّ على خبيئة نفسه‏.‏ وللعلماء قولان في حكم الزّنديق‏:‏ القول الأوّل‏:‏ إذا عثر على الزّنديق يقتل ولا يستتاب، ولا يقبل قوله في دعوى التّوبة إلاّ إذا جاء تائبا قبل أن يظهر عليه‏.‏ وهذا مذهب المالكيّة وأحد قولي الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، وقول اللّيث وإسحاق‏.‏ وعلّة ذلك‏:‏ أنّه لا تظهر منه علامة تبيّن رجوعه وتوبته ‏;‏ لأنّه كان مظهرا للإسلام مسرّا للكفر، فإذا أظهر الإسلام لم يزد جديدا‏.‏ القول الثّاني‏:‏ الزّنديق يحبس للاستتابة كالمرتدّ، وهو الرّواية الأخرى عن الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة، والمرويّ عن عليّ وابن مسعود، وبه قال بعض المالكيّة كابن لبابة‏.‏ استدلّوا بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يكن يقتل المنافقين مع معرفته بهم، فهو الأسوة في إبقائهم على الحياة واستتابتهم كالمرتدّين‏.‏

ج - ‏(‏حبس المسيء إلى بيت النّبوّة‏)‏‏:‏

57 - من سبّ أحدا من أهل بيت النّبوّة يضرب ويشهّر ويحبس طويلا ‏;‏ لاستخفافه بحقّ الرّسول صلى الله عليه وسلم‏.‏ ومن شتم العرب أو لعنهم أو بني هاشم سجن وضرب‏.‏ ومن انتسب كذبا إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم ضرب وسجن وشهّر به لاستخفافه بحقّه عليه الصلاة والسلام، ولا يخلّى عنه حتّى تظهر توبته‏.‏ ومن شتم عائشة رضي الله عنها بما برّأها اللّه تعالى منه يسجن للاستتابة وإلاّ قتل لردّته وكفره‏.‏ ومن استخفّ بها فعليه الضّرب الشّديد والسّجن الطّويل‏.‏ ومن سبّ الصّحابة أو انتقصهم أو واحدا منهم يحبس ويشدّد عليه في السّجن‏.‏

د - ‏(‏الحبس لترك الصّلاة‏)‏‏:‏

58 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ من ترك الصّلاة جحودا واستخفافا كافر مرتدّ، يحبس للاستتابة وإلاّ يقتل‏.‏ وقد ذكروا‏:‏ أنّ ترك الصّلاة يحصل بترك صلاة واحدة يخرج وقتها دون أدائها مع الإصرار على ذلك‏.‏ ومن ترك الصّلاة كسلا وتهاونا مع اعتقاد وجوبها يدعى إليها، فإن أصرّ على تركها ففي عقوبته ثلاثة أقوال‏:‏ القول الأوّل‏:‏ يحبس تارك الصّلاة كسلا ثلاثة أيّام للاستتابة وإلاّ قتل حدّا لا كفرا، وهذا مرويّ عن حمّاد بن زيد ووكيع ومالك والشّافعيّ‏.‏ القول الثّاني‏:‏ يحبس تارك الصّلاة كسلا ثلاثة أيّام للاستتابة وإلاّ قتل كفرا وردّة، حكمه في ذلك حكم من جحدها وأنكرها لعموم حديث‏:‏ ‏{‏بين الرّجل وبين الشّرك والكفر ترك الصّلاة‏}‏ وهذا قول عليّ رضي الله عنه والحسن البصريّ والأوزاعيّ وابن المبارك وأحمد في أصحّ الرّوايتين عنه‏.‏ القول الثّالث‏:‏ يحبس تارك الصّلاة كسلا ولا يقتل بل يضرب في حبسه حتّى يصلّي، وهو المنقول عن الزّهريّ وأبي حنيفة والمزنيّ من أصحاب الشّافعيّ‏.‏ واستدلّوا بحديث‏:‏ ‏{‏لا يحلّ دم امرئ مسلم إلاّ بإحدى ثلاث‏:‏ النّفس بالنّفس، والثّيّب الزّاني، والمارق من الدّين التّارك الجماعة‏}‏ وتارك الصّلاة كسلا ليس أحد الثّلاثة، فلا يحلّ دمه بل يحبس لامتناعه منها حتّى يؤدّيها‏.‏

هـ - الحبس لانتهاك حرمة شهر رمضان‏:‏

59 - من أفطر في رمضان جحودا واستهزاء حبس للاستتابة وإلاّ قتل ‏;‏ لأنّه كافر مرتدّ‏.‏ ومن أفطر في رمضان كسلا وتهاونا لم يزل عنه وصف الإسلام ولا يقتل بإجماع الفقهاء بل يعاقب بالحبس، ويمنع من الطّعام والشّراب نهارا ليحصل له صورة الصّيام، وربّما حمله ذلك على أن ينويه فيحصل له حينئذ حقيقته‏.‏ ونصّ الماورديّ على أنّه يحبس مدّة صيام شهر رمضان‏.‏ ومن شرب الخمر في رمضان يضرب ثمانين جلدة، ثمّ يحبس ويضرب عشرين جلدة تعزيرا لحقّ رمضان‏.‏ وهذا قول بعض فقهاء الحنفيّة وهو المنقول عن عليّ رضي الله عنه‏.‏

و - الحبس بسبب العمل بالبدعة والدّعوة إليها‏:‏ حبس البدعيّ الدّاعية‏:‏

60 - ذكر الحنفيّة وكثير من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ البدعيّ الدّاعية يمنع من نشر بدعته، ويضرب ويحبس بالتّدرّج، فإذا لم يكفّ عن ذلك جاز قتله سياسة وزجرا ‏;‏ لأنّ فساده أعظم وأعمّ، إذ يؤثّر في الدّين ويلبّس أمره على العامّة‏.‏ ونقل عن أحمد أنّه يحبس ولو مؤبّدا حتّى يكفّ عن الدّعوة إلى بدعته ولا يقتل، وبهذا قال بعض المالكيّة‏.‏

حبس المبتدع غير الدّاعية

61 - نصّ الحنفيّة وبعض المالكيّة على مشروعيّة حبس المبتدع غير الدّاعية وضربه إذا لم ينفع معه البيان والنّصح، وقال آخرون يعزّر‏.‏ واتّجه بعضهم إلى جواز قتله إذا لم يتب‏.‏ وقد حبس عمر رضي الله عنه صبيغ بن عسل وضربه مرارا لتتبّعه مشكل القرآن ومتشابهه بقصد إرساء مبدأ الابتداع والكيد في الدّين مخالفا بذلك قواعد التّسليم لكلام اللّه تعالى كما كان يفعل الصّحابة‏.‏

ز - الحبس للتّساهل في الفتوى ونحوه‏:‏ حبس المفتي الماجن‏:‏

62 - نصّ فقهاء المالكيّة على مشروعيّة حبس وتأديب المتجرّئ على الفتوى إذا لم يكن أهلا لها‏.‏ ونقل مالك عن شيخه ربيعة أنّه قال‏:‏ بعض، من يفتي هاهنا أحقّ بالسّجن من السّرّاق‏.‏ وسئل بعض الفقهاء عن رجل يقول‏:‏ إنّ الاستمرار في شرب الدّخان أشدّ من الزّنى فماذا يلزمه‏؟‏ فأجاب‏:‏ يلزمه التّأديب اللّائق بحاله كالضّرب أو السّجن لتجرّئه على الأحكام الشّرعيّة وتغييره لها ‏;‏ لأنّ حرمة الزّنى قطعيّة إجماعيّة، وفي حرمة الدّخان خلاف‏.‏

ح - الحبس للامتناع من أداء الكفّارات‏:‏

63 - ذكر الشّافعيّة في قول مرجوح أنّ الممتنع من أداء الكفّارات يحبس‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ لا يحبس بل يؤدّب‏.‏ وقال الحنفيّة في الظّهار‏:‏ إنّ المرأة المظاهر منها إذا خافت أن يستمتع بها زوجها قبل الكفّارة ولم تقدر على منعه رفعت أمرها للحاكم ليمنعه منها، ويؤدّبه إن رأى ذلك‏.‏ فإن أصرّ المظاهر على امتناعه من الكفّارة ألزمه القاضي بها بحبسه وضربه دفعا للضّرر عن الزّوجة إلى أن يكفّر أو يطلّق، لأنّ حقّ المعاشرة يفوت بالتّأخير لا إلى خلف، فاستحقّ الحبس لامتناعه‏.‏

حالات الحبس بسبب الاعتداء على الأخلاق ونحو ذلك

أ - حبس البكر الزّاني بعد جلده‏:‏

64 - اتّفق الفقهاء على أنّ حدّ البكر الزّاني مائة جلدة للآية‏:‏ ‏{‏الزّانية والزّاني فاجلدوا كلّ واحد منهما مائة جلدة‏}‏‏.‏ واختلفوا في نفيه الوارد في ‏{‏قوله صلى الله عليه وسلم لرجل زنى ابنه‏:‏ وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام‏}‏‏.‏ ولهم في ذلك ثلاثة أقوال‏:‏ القول الأوّل‏:‏ أنّ التّغريب جزء من حدّ الزّنى، وهو واجب في الرّجل والمرأة، فيبعدان عن بلد الجريمة إلى مسافة القصر، وهذا مذهب الشّافعيّة والحنابلة‏.‏ وزاد الشّافعيّة‏:‏ أنّه إذا خيف إفساد المغرّب غيره قيّد وحبس في منفاه‏.‏ القول الثّاني‏:‏ إنّ التّغريب جزء من حدّ الزّنى أيضا، وهو واجب في الرّجل دون المرأة فلا تغرّب خشية عليها‏.‏ وينبغي حبس الرّجل وجوبا في منفاه، وهذا مذهب المالكيّة والأوزاعيّ للمنقول عن عليّ رضي الله عنه‏.‏ وقال اللّخميّ من أصحاب مالك‏:‏ إذا تعذّر تغريب المرأة سجنت بموضعها عاما، لكن المعتمد الأوّل‏.‏ القول الثّالث‏:‏ إنّ التّغريب ليس جزءا من حدّ الزّنى بل هو من باب السّياسة والتّعزير وذلك مفوّض إلى الحاكم وهذا مذهب الحنفيّة‏.‏ واستدلّوا بقول عمر رضي الله عنه بعد أن نفى رجلا ولحق بالرّوم‏:‏ لا أنفي بعدها أبدا‏.‏ وبقول عليّ رضي الله عنه‏:‏ كفى بالنّفي فتنة‏.‏ وقالوا‏:‏ إنّ المغرّب يفقد حياءه بابتعاده عن بلده ومعارفه فيقع في المحظور‏.‏ لكن إذا رأى الحاكم حبسه في بلده مخافة فساده فعل‏.‏

ب - حبس من يعمل عمل قوم لوط‏:‏

65 - للفقهاء عدّة أقوال في عقوبة اللّواط منها قول بحبسهما‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏زنى، ولواط‏)‏‏.‏

ج - حبس المتّهم بالقذف‏:‏

66 - من أقام شاهدا واحدا على قذفه حبس قاذفه لاستكمال نصاب الشّهادة‏.‏ ومن ادّعى على آخر قذفه وبيّنته في المصر يحبس المدّعى عليه ليحضر المدّعي البيّنة حتّى قيام الحاكم من مجلسه وإلاّ خلّي سبيله بغير كفيل، وهذا مذهب الحنفيّة والمالكيّة بخلاف الشّافعيّة‏.‏ وقال ابن القاسم من أصحاب مالك في الّذي يقوم عليه شاهد واحد بالقذف‏:‏ لا يجلد بل يسجن أبدا حتّى يحلف أنّه ما أراد القذف بل الشّتم والسّبّ والفحش في الكلام‏.‏ وقيل‏:‏ يسجن سنة ليحلف، وقيل‏:‏ يحدّ‏.‏

د - حبس المدمن على السّكر تعزيرا بعد حدّه‏:‏

67 - روي عن مالك أنّه استحبّ أن يلزم مدمن الخمر السّجن، ويؤيّده ما روي أنّ عمر رضي الله عنه جلد أبا محجن الثّقفيّ في الخمر ثماني مرّات، وأمر بحبسه، فأوثق يوم القادسيّة، ثمّ أطلق بعد توبته‏.‏

هـ - الحبس للدّعارة والفساد الخلقيّ‏:‏

68 - نصّ الفقهاء على وجوب تتبّع أهل الفساد، وذكروا أنّهم يعاقبون بالسّجن حتّى يتوبوا‏.‏ فمن قبّل أجنبيّة أو عانقها أو مسّها بشهوة أو باشرها من غير جماع يحبس إلى ظهور توبته‏.‏ ومن خدع البنات وأخرجهنّ من بيوتهنّ وأفسدهنّ على آبائهنّ حبس‏.‏ وتحبس المرأة الدّاعرة والقوّادة وتضرب حتّى تظهر توبتها‏.‏

و - ‏(‏الحبس للتّخنّث‏)‏‏:‏

69 - نصّ الحنفيّة على حبس المخنّث تعزيرا له حتّى يتوب، ونقل عن الإمام أحمد رحمه الله أنّه يحبس إذا خيف به فساد النّاس‏.‏ وقال ابن تيميّة‏:‏ إذا نفي المخنّث وخيف فساده يحبس في مكان واحد ليس معه غيره‏.‏

ز - ‏(‏الحبس للتّرجّل‏)‏‏:‏

70 - ذكر ابن تيميّة رحمه الله أنّ المرأة المتشبّهة بالرّجال تحبس، سواء أكانت بكرا أم ثيّبا ‏;‏ لأنّ جنس هذا الحبس مشروع في جنس الفاحشة وهو الزّنى‏.‏ وإذا لم يمكن حبسها عن جميع النّاس فتحبس عن بعضهم في دار وتمنع من الخروج‏.‏

ح - الحبس لكشف العورات في الحمّامات‏:‏

71 - نصّ يحيى بن عمر القاضي الأندلسيّ على سجن صاحب الحمّام وغلق حمّامه إذا سهّل للنّاس كشف عوراتهم ورضي بذلك ولم يمنعهم من الدّخول مكشوفي العورات‏.‏

ط - الحبس لاتّخاذ الغناء صنعة‏:‏

72 - نصّ الحنفيّة على حبس المغنّي حتّى يحدث توبة لتسبّبه في الفتنة والفساد غالبا‏.‏

حالات الحبس بسبب الاعتداء على المال

أ - حبس العائد إلى السّرقة بعد قطعه‏:‏

73 - إذا قطع السّارق ثمّ عاد إلى السّرقة يحبس عند جمهور الفقهاء لمنع ضرره عن النّاس، على خلاف بينهم في تحديد عدد المرّات الّتي يقطع أو يحبس بعدها‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ سرقة‏)‏‏.‏

ب - حبس السّارق تعزيرا لتخلّف موجب القطع‏:‏

74 - نصّ الفقهاء على حالات يحبس فيها السّارق لتخلّف موجبات القطع ومن ذلك‏:‏ حبس من اعتاد سرقة أبواب المساجد، وحبس من اعتاد سرقة بزابيز الميض ‏(‏صنابير الماء‏)‏ ونعال المصلّين‏.‏ ونصّوا على حبس الطّرّار والقفّاف والمختلس، ومن يدخل الدّار فيجمع المتاع فيمسك ولمّا يخرجه‏.‏ وكلّ سارق انتفى عنه القطع لشبهة ونحوها يعزّر ويحبس‏.‏

ج - حبس المتّهم بالسّرقة‏:‏

75 - نصّ الفقهاء على حبس المتّهم بالسّرقة لوجود قرينة معتبرة في ذلك كتجوّله في موضع السّرقة ومعالجته أمورا تعتبر مقدّمات لذلك‏.‏

د - الحبس لحالات تتّصل بالغصب‏:‏

76 - يجب على الغاصب ردّ عين المغصوب فإن أبى حبس حتّى يردّه، فإن ادّعى هلاكه حبسه الحاكم مدّة يعلم أنّه لو كان باقيا لأظهره، ثمّ يمضي عليه بمثله‏.‏ وقيل‏:‏ بل يصدّق بيمينه ويضمن قيمته ولا يحبس‏.‏ ومن بلع درهما أو دينارا أو لؤلؤة حبس حتّى يرميه لصاحبه‏.‏

هـ - الحبس للاختلاس من بيت مال المسلمين‏:‏

77 - ذهب بعض الصّحابة إلى حبس من اختلس من بيت المال، وحكي ذلك عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه مع معن بن زائدة‏.‏

و - ‏(‏حبس الممتنع من أداء الزّكاة‏)‏‏:‏

78 - نصّ بعض الفقهاء على حبس الممتنع من أداء الزّكاة مع اعتقاده وجوبها‏.‏

ز - الحبس للدّين‏:‏ مشروعيّة حبس المدين‏:‏

79 - المدين أحد رجلين‏:‏ إمّا معسر، وإمّا موسر‏:‏ فالمدين الّذين ثبت إعساره يمهل حتّى يوسر للآية‏:‏ ‏{‏وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة‏}‏‏.‏ والمدين الموسر يعاقب إذا امتنع من وفاء الدّين الحالّ لظاهر الحديث‏:‏ ‏{‏ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته‏}‏‏.‏ وللعلماء قولان في تفسير هذه العقوبة‏:‏ القول الأوّل‏:‏ يقصد بالعقوبة في الحديث الحبس، وهذا قول شريح والشّعبيّ وأبي عبيد وسوّار وغيره، وهو مذهب الحنفيّة والمالكيّة، والشّافعيّة، والحنابلة‏.‏ واختاره ابن تيميّة وابن القيّم وغيرهما ‏;‏ لأنّ الحقوق لا تخلّص في هذه الأزمنة غالبا إلاّ به وبما هو أشدّ منه‏.‏ القول الثّاني‏:‏ العقوبة في الحديث هي الملازمة، حيث يذهب الدّائن مع المدين أنّى ذهب، وهذا قول أبي هريرة وعمر بن عبد العزيز واللّيث بن سعد والحسن البصريّ‏.‏ وذكروا أنّ المدين لا يحبس، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يحبس بالدّين، ولم يحبس بعده أحد من الخلفاء الرّاشدين، بل كانوا يبيعون على المدين ماله‏.‏

ما يحبس به المدين

80 - قسّم الفقهاء الدّين إلى أقسام‏:‏ ما كان بالتزام بعقد كالكفالة والمهر المعجّل، وما كان بغير التزام إلاّ أنّه لازم، كنفقة الأقارب وبدل المتلف، وما كان عن عوض ماليّ كثمن المبيع‏.‏ ولهم أقوال مختلفة فيما يحبس به المدين وما لا يحبس به‏.‏ وذكروا أنّ أقلّ مقدار يحبس به المدين المماطل في دين آدميّ درهم واحد‏.‏ أمّا الدّيون الّتي للّه تعالى كالزّكاة والكفّارة فلا حبس فيها عند طائفة من الفقهاء‏.‏ المدين الّذي يحبس‏:‏

81 - تحبس المرأة بالدّين إن طلب غريمها ذلك، سواء أكانت زوجة أم أجنبيّة‏.‏ واتّجه بعض الشّافعيّة إلى أنّ المخدّرة ‏(‏الّتي تلزم بيتها ولا تبرز للرّجال‏)‏ لا تحبس في الدّين، بل يستوثق عليها ويوكّل بها‏.‏ ويحبس الزّوج بدين زوجته أو غيرها‏.‏ ويحبس القريب بدين أقربائه، حتّى الولد يحبس بدين والديه لا العكس‏.‏ ويستوي في ذلك الرّجل والمرأة ‏;‏ لأنّ موجب الحبس لا يختلف بالذّكورة والأنوثة‏.‏ ومذهب المالكيّة والشّافعيّة وأحد قولي الحنفيّة أنّ الصّبيّ لا يحبس بالدّين بل يؤدّب‏.‏ وفي القول الآخر للحنفيّة‏:‏ أنّه يحبس بالدّين إذا أذن له بالبيع وظلم‏.‏ ويحبس المسلم بدين الكافر ولو ذمّيّا أو حربيّا مستأمنا ‏;‏ لأنّ معنى الظّلم متحقّق في مماطلته‏.‏

مدّة حبس المدين

82 - اختلفوا في مدّة حبس المدين، والصّحيح تفويض ذلك للقاضي ‏;‏ لأنّ النّاس يختلفون في احتمال الحبس‏.‏ وقال بعض الحنفيّة‏:‏ هي شهر‏.‏ وفي رواية محمّد بن الحسن عن أبي حنيفة شهران أو ثلاثة‏.‏ وفي رواية الحسن عنه ما بين أربعة أشهر إلى ستّة‏.‏ وعند المالكيّة يؤبّد حبسه حتّى يقضي دينه إذا علم يسره‏.‏ ولم نجد نصّا للشّافعيّة والحنابلة‏.‏

ح - الحبس للتّفليس‏:‏

83 - يشترك المفلس مع المدين في كثير من الأحكام الّتي تقدّم ذكرها، ويفترق عنه - بحسب ما ذكروه - في أنّ الحاكم يتدخّل لشهر المفلس بين النّاس وإعلان عجزه عن وفاء دينه وجعل ماله المتبقّي لغرمائه‏.‏ ولا يحبس المعسر ولو طلب غرماؤه ذلك لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة‏}‏‏.‏ وإذا كان المفلس مجهول الحال لا يعرف غناه أو فقره حبس بطلب من الغرماء حتّى يستبين أمره‏.‏ واختلفوا في صحّة كفالته بوجه أو بمال حتّى تزول الجهالة‏.‏ وقالوا‏:‏ إذا أخبر بإعساره واحد من الثّقات أخرج من حبسه‏.‏ وإذا حبس المفلس المجهول الحال وظهر أنّ له مالا، أو عرف مكانه أمر بالوفاء‏.‏ فإن أبى أبقي في الحبس - بطلب غريمه - حتّى يبيع ماله ويقضي دينه‏.‏ فإن أصرّ على عدم بيع ماله لقضاء دينه باعه الحاكم عليه وقضاه، وأخرجه من الحبس في قول الجمهور والصّاحبين من الحنفيّة‏.‏ وقيل‏:‏ يخيّر الحاكم بين حبسه لإجباره على بيع ماله بنفسه وبين بيعه عليه لوفاء دينه‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ إنّ الحاكم لا يجيب الغرماء إلى بيع مال المفلس وعروضه، خوفا من أن تخسر عليه ويتضرّر‏.‏ بل يقضي دينه بجنس ما عنده من الدّراهم والدّنانير‏.‏ فإن لم يكن فيؤيّد حبسه لحديث‏:‏ ‏{‏ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته‏}‏‏.‏ وإذا قامت القرائن أو البيّنة على وجود مال للمدين المفلس، ولم يعلم مكانه حبس حتّى يظهره إن طلب غريمه ذلك‏.‏ وهذا باتّفاق الفقهاء للحديث الآنف ذكره‏.‏

حبس المفلس بطلب بعض الغرماء

84 - إن طلب بعض الغرماء حبس المفلس الّذي لم يثبت إعساره وأبى بعضهم حبس ولو لواحد، فإن أراد الّذين لم يحبسوا محاصّة الحابس في مال المفلس المحبوس فلهم ذلك‏.‏ ولهم أيضا إبقاء حصصهم في يد المفلس المحبوس‏.‏ وليس للغريم الحابس إلاّ حصّته‏.‏

ط - الحبس للتّعدّي على حقّ اللّه أو حقوق العباد‏:‏

85 - شرع الحبس في كلّ تعدّ على حقّ للّه تعالى، كالتّعامل بالرّبا، وبيع الخمر، والغشّ والاحتكار، أو الزّواج بأكثر من أربع، أو الجمع بين أختين، وبيع الوقف، وفي كلّ تعدّ على حقوق العباد، كمنع مستحقّي الوقف من ريعه، والامتناع من تسليم المبيع بعد العقد، وتسليم الأجرة، أو بدل الخلع، أو الجزية، أو الخراج، أو العشر، وجحد الوديعة، والخيانة في الوكالة، وعدم الإنفاق على من تجب نفقته عند الجمهور، والمدّعى عليه إذا لم يبيّن ما أبهمه‏.‏ وتفصيل ذلك في أبوابه‏.‏

ي - حبس الكفيل لإخلاله بالتزاماته‏:‏ الكفالة نوعان بالمال وبالنّفس، وتتّصل بالحبس فيما يلي‏:‏ أوّلا‏:‏ حبس الكفيل بالمال لامتناعه من الوفاء‏:‏

86 - نصّ الحنفيّة والشّافعيّة على جواز حبس الكفيل بمال مستحقّ إذا لم يوف المكفول ما عليه أو مات معسرا، وذلك لتخلّفه عمّا التزمه ‏;‏ ولأنّ ذمّته مضمومة إلى ذمّة المكفول بالمطالبة، فلذا جاز حبسه إلاّ إذا ثبت إعساره‏.‏ وهذا مقتضى كلام المالكيّة والحنابلة، بل نقل الإجماع على ذلك‏.‏ والأصل في هذا حديث‏:‏ ‏{‏الحميل غارم‏}‏‏.‏ وروي عن شريح القاضي قوله‏:‏ لا يحبس الكفيل إذا غاب المكفول حيث لا يجب عليه إحضاره‏.‏

ثانيا‏:‏ حبس الكفيل بالنّفس‏:‏

87 - تعرف الكفالة بالنّفس أيضا بكفالة الوجه والبدن، وهي ثلاثة أنواع‏:‏ النّوع الأوّل‏:‏ الكفالة بذات الحدود والقصاص بعد شهادة شاهدين ينتظر تزكيتهما، وهذه غير جائزة بالإجماع، بل يحبس المدّعى عليه لاستكمال الإجراءات ‏;‏ لأنّ الحدود لا تستوفى من الكفيل إذا تعذّر إحضار المكفول، فضلا عن أنّها لا تقبل النّيابة‏.‏ النّوع الثّاني‏:‏ الكفالة بإحضار نفس من عليه قصاص أو حدّ لآدميّ، كقذف إلى مجلس الحكم، وهذه جائزة عند الحنفيّة والشّافعيّة دون غيرهم ‏;‏ لأنّ فيها حقّ العبد ويحتمل إسقاطه ممّن له الحقّ‏.‏ النّوع الثّالث‏:‏ الكفالة بالمال وهي جائزة عند جمهور فقهاء الأمصار، فيجوز كفالة المحبوس أو مستحقّ الحبس في ذلك‏.‏

أحوال الكفيل بالنّفس

88 - تنتظم أحوال الكفيل بالنّفس الحالات التّالية‏:‏ الحالة الأولى‏:‏ إذا تعهّد الكفيل بإحضار المكفول من غير ضمان المال، أو لم يذكره في الكفالة، فمذهب الحنفيّة والشّافعيّة في ذلك أنّه يحبس لمماطلته إذا انقضت المدّة ولم يحضر المكفول، ولا يقبل منه بذل المال عند الحنفيّة لاشتراطه إحضار النّفس لا غيرها، والمسلمون عند شروطهم‏.‏ ومذهب المالكيّة والحنابلة أنّه لا يحبس بل يلزم بإحضار المكفول، أو يغرم المال‏.‏ الحالة الثّانية‏:‏ إذا تعهّد الكفيل بإحضار المكفول وصرّح بضمانه المال إذا تخلّف، فإنّه لا يحبس بل يغرم المال إذا لم يحضر المكفول في الوقت المحدّد، وهذا قول فقهاء مذاهب الأمصار‏.‏ فإن ماطل في الدّفع وكان موسرا حبس ‏;‏ لأنّ الحقّ شغل ذمّته كشغله ذمّة المكفول‏.‏ وذكروا أنّ السّجّان ونحوه ممّن استحفظ على بدن الغريم بمنزلة كفيل الوجه، فينبغي عليه إحضاره‏.‏ فإن أطلقه وتعذّر إحضاره عومل بنحو ما تقدّم في الحالتين الآنفتين‏.‏ الحالة الثّالثة‏:‏ إذا تعهّد الكفيل بإحضار النّفس الّتي كفلها في القصاص والحدّ الّذي هو حقّ لآدميّ وقصّر فلم يحضرها في الوقت المحدّد يحبس إلى حضور المكفول أو موته‏.‏

الحبس لحالات تتّصل بالقضاء والأحكام

أ - حبس الممتنع من تولّي القضاء‏:‏

89 - نصّ المالكيّة على أنّ للإمام حبس الممتنع من تولّي القضاء إذا تعيّن له حتّى يقبله لتخلّفه عن الواجب الشّرعيّ، وصيانة لحقوق المسلمين، وبه أفتى الإمام مالك‏.‏

ب - حبس المسيء إلى هيئة القضاء‏:‏

89 م - للقاضي أن يأمر بحبس وضرب من قال لا أخاصم المدّعي عندك، أو استهزأ به ورماه بما لا يناسبه ولم يثبت ذلك‏.‏ وله حبس المتخاصمين وضربهما إذا تشاتما أمامه‏.‏ وقال سحنون وهي رواية عن أشهب‏:‏ للقاضي حبس المدّعى عليه وتأديبه إذا قال في مجلس القضاء‏:‏ لا أقرّ ولا أنكر واستمرّ على لدده ولا بيّنة للمدّعي، وبنحوه قال الشّافعيّ‏.‏

ج - حبس المدّعى عليه الحدّ والقصاص حتّى يعدّل الشّهود‏:‏

90 - ذهب الفقهاء إلى أنّ للقاضي حبس المدّعى عليه حتّى يتثبّت من الدّعوى بحجّة كاملة فيما كان أقصى عقوبة فيه غير الحبس كالحدود والقصاص، حيث أقصى العقوبة فيها القتل والقطع والجلد، فيحبس القاضي المدّعى عليه وبخاصّة في حقّ الآدميّ حتّى يكشف القاضي عن عدالة الشّهود ‏;‏ لأنّ ذلك من وظيفته بعد أن أتى المدّعي بما عليه من البيّنة‏.‏ فمن ادّعى عليه بسرقة يحبس حتّى تظهر عدالة الشّهود في ذلك‏.‏ ومن ادّعى على آخر أنّه قذفه وبيّنته في المصر حبس المدّعى عليه، ليحضر المدّعي بيّنته حتّى يقوم الحاكم من مجلسه وإلاّ خلّى سبيله بدون كفيل‏.‏ فإن كانت بيّنته غائبة أو خارج المصر فلا يحبس، فإذا أقام شاهدا واحدا حبسه‏.‏

د - حبس صاحب الدّعوى الكيديّة‏:‏

91 - ذكر الحنفيّة والمالكيّة أنّ من قام بشكوى بغير حقّ وانكشف للحاكم أنّه مبطل في دعواه فإنّه يؤدّبه، وأقلّ ذلك الحبس ليندفع بذلك أهل الباطل‏.‏

و - حبس المقرّ لآخر بمجهول لامتناعه من تفسيره‏:‏

93 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ من أقرّ لآخر بمجهول وامتنع من تفسيره حبس حتّى يفسّره، سواء أقرّ به من نفسه ابتداء أو ادّعى عليه به‏.‏ وقالوا‏:‏ إنّه لا يصحّ له الرّجوع عمّا أقرّ به للزومه ‏;‏ ولأنّ كلام العاقل محمول على الجدّ لا الهزل‏.‏ لكن يقبل قوله في توضيح ما أبهمه ‏;‏ لأنّه أعلم بنيّته‏.‏ ويحلف يمينا أنّه ما نوى إلاّ ذلك صيانة لحقوق النّاس‏.‏ وذهب بعض فقهاء الشّافعيّة في قول مضعّف إلى أنّ المقرّ بمجهول لا يحبس إذا امتنع من تفسيره ‏;‏ لإمكان حصول الغرض بغير الحبس‏.‏

حالات الحبس بسبب الاعتداء على نظام الدّولة

أ - حبس الجاسوس المسلم‏:‏

94 - المنقول عن أبي حنيفة والشّافعيّ وأحمد وبعض المالكيّة أنّ الحاكم لا يقتل الجاسوس المسلم بل يعزّره بما يراه‏.‏ ونصّ أبو يوسف القاضي وغيره من الحنفيّة على حبسه حتّى تظهر توبته‏.‏ وقال بعض المالكيّة‏:‏ يطال سجنه وينفى من الموضع الّذي كان فيه‏.‏ وقال مالك وابن القاسم وسحنون‏:‏ للحاكم قتل الجاسوس المسلم إن رأى في ذلك المصلحة، وبه قال ابن عقيل من الحنابلة‏.‏ وسبب الاختلاف في عقوبة الجاسوس المسلم تعدّد الأقوال في حادثة حاطب بن أبي بلتعة قبيل فتح مكّة، حين كتب لبعض قريش يخبرهم بمسير النّبيّ إليهم‏.‏

ب - حبس البغاة‏:‏

95 - يحبس البغاة وهم الخارجون على الحاكم في الحالات التّالية‏:‏ الحالة الأولى إذا تأهّبوا للقتال‏:‏ إذا قام البغاة بأعمال تدلّ على إرادة الخروج على الإمام كشراء السّلاح والاجتماع للثّورة والتّأهّب للقتال جاز للحاكم أخذهم وحبسهم ولو لم يقاتلوا حقيقة ‏;‏ لأنّ العزم على الخروج معصية ينبغي زجرهم عنها ‏;‏ فضلا عن أنّهم لو تركوا لأفسدوا في الأرض وفات دفع شرّهم‏.‏ الحالة الثّانية أخذهم أثناء القتال‏:‏ إذا أمسك البغاة أثناء القتال حبسوا، ولا يطلق سراحهم إن خيف انحيازهم إلى فئة أخرى أو عودتهم للقتال‏.‏ وسبب حبسهم كسر قلوب الآخرين وتفريق جمعهم‏.‏ الحالة الثّالثة تتبّعهم بعد القتال وحبسهم‏:‏ اختلف الفقهاء في حكم تتبّع البغاة الهاربين وحبسهم، ولهم في هذا قولان‏:‏ القول الأوّل‏:‏ يجوز للإمام تتبّعهم وحبسهم إن كان لهم فئة ينحازون إليها، وهذا قول المالكيّة والشّافعيّة وبعض الحنفيّة‏.‏ ونسب إلى أبي حنيفة أنّ الإمام يتتبّعهم ويحبسهم ولو لم تكن لهم فئة‏.‏ وبه قال بعض المالكيّة‏.‏ القول الثّاني‏:‏ لا يجوز للإمام تتبّعهم وحبسهم ولو كان لهم فئة ينحازون إليها ‏;‏ لأنّ المقصود دفعهم وقد حصل‏.‏ وهذا مذهب الحنابلة وقول الشّافعيّ وأبي يوسف والمنقول عن عليّ رضي الله عنه‏.‏

وقت الإفراج عن البغاة المحبوسين

96 - للفقهاء أربعة أقوال في وقت الإفراج عن البغاة المحبوسين‏:‏ القول الأوّل‏:‏ يجب الإفراج عنهم بعد توقّف القتال، ولا يجوز استمرار حبسهم‏.‏ لكن يشترط عليهم أن لا يعودوا إلى القتال‏.‏ وهذا مذهب الشّافعيّة وأحد قولي الحنابلة‏.‏ القول الثّاني‏:‏ يجوز حبسهم بعد القتال ولا يخلّى عنهم إلاّ بظهور توبتهم لدفع شرّهم، وعلامة ذلك عودتهم إلى الطّاعة‏.‏ وهذا مذهب الحنفيّة وقول بعض المالكيّة‏.‏ القول الثّالث‏:‏ يجوز حبسهم بعد القتال، ويجب إطلاق سراحهم إذا أمن عدم عودتهم، وهذا مذهب المالكيّة‏.‏ القول الرّابع‏:‏ يجوز استمرار حبسهم بعد القتال معاملة لهم بالمثل حتّى يتوصّل إلى استخلاص أسرى أهل العدل، وهذا هو القول الآخر للحنابلة‏.‏

مشروعيّة اتّخاذ موضع للحبس

97 - للفقهاء قولان في جواز اتّخاذ الحاكم موضعا للحبس فيه‏:‏ القول الأوّل‏:‏ يجوز للحاكم إفراد موضع ليحبس فيه، وهذا قول الجمهور بل إنّ بعضهم اعتبر ذلك من المصالح المرسلة‏.‏ وقال آخرون‏:‏ إنّه مستحبّ‏.‏ واستدلّوا لهذا بفعل عمر رضي الله عنه حين اشترى له نافع بن عبد الحارث عامله على مكّة دارا للسّجن من صفوان بن أميّة بأربعة آلاف درهم‏.‏ كما أنّ عليّا رضي الله عنه أوّل من أحدث سجنا في الإسلام وجعله في الكوفة‏.‏ القول الثّاني‏:‏ لا يتّخذ الحاكم موضعا يخصّصه للحبس ‏;‏ لأنّه لم يكن لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم ولا لخليفته أبي بكر رضي الله عنه سجن‏.‏ ولكن إذا لزم الأمر يعوّق بمكان من الأمكنة أو يأمر الغريم بملازمة غريمه كما فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏.‏ وهذا قول بعض أصحاب أحمد وآخرين غيرهم‏.‏

اتّخاذ السّجن في الحرم

98 - للفقهاء ثلاثة أقوال في اتّخاذ السّجن في الحرم‏:‏ القول الأوّل‏:‏ يجوز اتّخاذ السّجن في الحرم مطلقا من غير كراهة لخبر شراء عمر رضي الله عنه السّجن بمكّة، وهذا قول جمهور الفقهاء‏.‏ القول الثّاني‏:‏ لا يحلّ أن يسجن أحد في حرم مكّة ‏;‏ لأنّ تطهير الحرم من العصاة واجب للآية‏:‏ ‏{‏أن طهّرا بيتي للطّائفين والعاكفين والرّكّع السّجود‏}‏ وظاهره يدلّ على حرمة اتّخاذ السّجن في حرم مكّة‏.‏ القول الثّالث‏:‏ يكره اتّخاذ السّجن في الحرم، وهو مرويّ عن طاوس وكان يقول‏:‏ لا ينبغي لبيت عذاب أن يكون في بيت رحمة ويقصد حرم مكّة‏.‏

تصنيف السّجون بحسب المحبوسين

أ - إفراد النّساء بسجن منعزل عن سجن الرّجال‏:‏

99 - نصّ الفقهاء على أن يكون للنّساء محبس على حدة إجماعا، ولا يكون معهنّ رجل لوجوب سترهنّ وتحرّزا من الفتنة‏.‏ والأولى أن تقوم النّساء على سجن مثيلاتهنّ فإن تعذّر ذلك جاز استعمال الرّجل المعروف بالصّلاح على محبسهنّ ليحفظهنّ، وهو المرويّ عن أبي حنيفة، وإذا لم يكن هناك سجن معدّ للنّساء حبست المرأة عند أمينة خالية عن الرّجال أو ذات رجل أمين كزوج أو أب أو ابن معروف بالخير والصّلاح‏.‏

ب - إفراد الخنثى بحبس خاصّ‏:‏

100 - إذا حبس الخنثى المشكل فلا يكون مع الرّجال ولا النّساء، بل يحبس وحده أو عند محرم، ولا ينبغي حبسه مع الرّجال ولا النّساء‏.‏

ج - حبس غير البالغين ‏(‏الأحداث‏)‏‏:‏ حبس غير البالغين في قضايا المعاملات الماليّة‏:‏

101 - مذهب المالكيّة والشّافعيّة وأحد قولي الحنفيّة أنّ غير البالغ إذا مارس التّجارة أو استهلك مال غيره فلا يحبس بدين في معاملته لعدم التّكليف‏.‏ ولا يمنع هذا من تأديبه بغير الحبس‏.‏ وصحّح السّرخسيّ من فقهاء الحنفيّة حبس الوليّ لتقصيره في حفظ ولده ‏;‏ ولأنّه المخاطب بأداء المال عنه‏.‏ والقول الآخر للحنفيّة‏:‏ أنّ غير البالغ يحبس بالدّين ونحوه تأديبا لا عقوبة، لأنّه مؤاخذ بحقوق العباد فيتحقّق ظلمه ‏;‏ ولئلاّ يعود إلى مثل الفعل ويتعدّى على أموال النّاس‏.‏ وعلّق بعض أصحاب هذا القول الحبس على وجود أب أو وصيّ للحدث، ليضجر فيسارع إلى قضاء الدّين عنه‏.‏

حبس غير البالغين في الجرائم

102 - نصّ بعض الفقهاء على أنّ غير البالغ لا يحبس بارتكابه الجرائم ونحوها‏.‏ وقال آخرون‏:‏ بجواز حبس الفاجر غير البالغ على وجه التّأديب لا العقوبة، وبخاصّة إذا كان الحبس أصلح له من إرساله، وكان فيه تأديبه واستصلاحه، ومن الجرائم الّتي نصّوا على الحبس فيها الرّدّة، فيحبس الصّبيّ المرتدّ حتّى يتوب وهو قول أبي حنيفة ومحمّد وكذا البغي، فيحبس صبيان البغاة المقاتلون حتّى تنقضي الحرب‏.‏

مكان حبس غير البالغين

103 - تدلّ أكثر النّصوص على أن يكون حبس الحدث في بيت أبيه أو وليّه‏.‏ على أنّه يجوز حبسه في السّجن إلاّ إذا خشي عليه ما يفسده فيتوجّب حبسه عند أبيه لا في السّجن‏.‏

د - تمييز حبس الموقوفين عن حبس المحكومين‏:‏

104 - حبس الموقوفين هو حبس أهل الرّيبة والتّهمة، وهو من سلطة الوالي لأنّه من اختصاصه كما في قول الزّبيريّ والماورديّ والقرافيّ وطائفة من أصحاب أحمد‏.‏ وحبس المحكومين هو حبس من وجب عليه حقّ وقامت به البيّنة وهو من سلطة القاضي‏.‏ والمعمول به في القديم تميّز حبس الوالي الّذي يضمّ أهل الرّيبة والفساد ‏(‏الموقوفين‏)‏ عن حبس القاضي الّذي يضمّ المحكومين‏.‏ ويختلف سجن الوالي عن سجن القاضي، فللمحبوس في سجن الوالي توكيل غيره في أداء الشّهادة عنه أمام القاضي إذا منع من الخروج، وليس ذلك لمن كان في سجن القاضي لإمكان خروجه بإذنه ومثل ذلك التّوكيل في سماع الدّعوى على المحبوس‏.‏ - تمييز الحبس في قضايا المعاملات عن الحبس في الجرائم‏:‏

105 - ميّز الفقهاء في الحبس بين المحبوس في المعاملات كالدّين، وبين المحبوس في الجرائم، كالسّرقة، والتّلصّص، والاعتداء على الأبدان، وكانوا يحرصون على أن لا يجتمع هؤلاء بأولئك في حبس واحد خوفا من العدوى، فضلا عن أنّ لأصحاب كلّ حبس معاملة تناسب جريمة كلّ منهم‏.‏

و - التّمييز بين المحبوسين بحسب تجانس جرائمهم‏:‏

106 - صنّف الفقهاء نزلاء سجون الجرائم إلى ثلاثة أصناف‏:‏ أهل الفجور ‏(‏المفاسد الخلقيّة‏)‏ وأهل التّلصّص ‏(‏السّرقات ونحوها‏)‏، وأهل الجنايات ‏(‏الاعتداء على الأبدان‏)‏، وجعل أبو يوسف القاضي هذا التّقسيم عنوان فصل أفرده في كتابه‏.‏

ز - تصنيف الحبس إلى جماعيّ وفرديّ‏:‏

107 - الظّاهر من كلام الفقهاء أنّ الأصل في الحبس كونه جماعيّا، وقالوا‏:‏ لا يجوز عند أحد من المسلمين أن يجمع الجمع الكثير في موضع تضيق عنهم غير متمكّنين من الوضوء والصّلاة، وقد يرى بعضهم عورة بعض ويؤذون في الحرّ والصّيف‏.‏ ويجوز للحاكم عزل السّجين وحبسه منفردا في غرفة يقفل عليه بابها إن كان في ذلك مصلحة‏.‏

ح - الحبس بالإقامة الجبريّة في البيت ونحوه‏:‏

108 - يجوز الحبس بالإقامة الجبريّة في البيت ونحوه، فقد ذكروا أنّ من ضرب غيره بغير حقّ عزّر، وصحّ حبسه ولو في بيته بأن يمنع من الخروج منه‏.‏ وللإمام حبس العائن في منزل نفسه سياسة ويمنع من مخالطة النّاس‏.‏

حبس المريض

109 - بحث الفقهاء في مسألة حبس المدين المريض، والظّاهر من كلام الجمهور وهو أحد قولي الشّافعيّة أنّ المرض لا يعتبر من موانع الحبس‏.‏ والقول الآخر المعتمد عند الشّافعيّة أنّ المريض المدين لا يحبس، بل يوكّل به ويستوثق عليه‏.‏ أمّا الجاني المريض فقد تقدّم ذكر ما يدلّ على مشروعيّة حبسه‏.‏

إخراج المريض من سجنه إذا خيف عليه

110 - إذا مرض المحبوس في سجنه وأمكن علاجه فيه فلا يخرج لحصول المقصود‏.‏ ولا يمنع الطّبيب والخادم من الدّخول عليه لمعالجته وخدمته ‏;‏ لأنّ منعه ممّا تدعو الضّرورة إليه يفضي إلى هلاكه، وذلك غير جائز‏.‏ وللفقهاء أقوال في إخراجه من الحبس إذا لم تمكن معالجته ورعايته فيه‏:‏ القول الأوّل‏:‏ يخرج من حبسه للعلاج والمداواة صيانة لنفسه، وهو ما ذكره بعض الحنفيّة كالخصّاف وابن الهمام، والظّاهر من كلام الشّافعيّة والمالكيّة‏.‏ القول الثّاني‏:‏ لا يخرج إلاّ بكفيل وهو المفتى به عند الحنفيّة‏.‏ القول الثّالث‏:‏ يعالج في الحبس ولا يخرج، والهلاك في الحبس وغيره سواء، وهو المرويّ عن أبي يوسف رحمه الله‏.‏ وقد اهتمّ المسلمون منذ القديم برعاية المرضى في السّجون فكتب عمر بن عبد العزيز إلى عمّاله انظروا من في السّجون وتعهّدوا المرضى‏.‏ وفي زمن الخليفة المقتدر خصّص بعض الأطبّاء للدّخول على المرضى في السّجون كلّ يوم، وحمل الأدوية والأشربة لهم ورعايتهم وإزاحة عللهم‏.‏

للفقهاء قولان في تمكين المحبوس من صلاة الجمعة‏:‏ القول الأوّل‏:‏ يمنع من الخروج إلى صلاة الجمعة وصلاة العيدين ليضجر قلبه وينزجر إن رأى الحاكم المصلحة في ذلك، هذا قول أكثر فقهاء المذاهب الأربعة، وهو ظاهر القول عن عليّ رضي الله عنه‏.‏ القول الثّاني‏:‏ لا يمنع المحبوس من الخروج إلى صلاة الجمعة وصلاة العيدين لأهمّيّتها، وهذا ظاهر كلام بعض الحنابلة، وبه قال البغويّ من الشّافعيّة، وهو المفهوم من كلام السّرخسيّ من الحنفيّة والبويطيّ صاحب الشّافعيّ‏.‏

112 - وإذا توفّرت شروط الجمعة في السّجن وأمكن أداؤها فيه لزمت السّجناء كما نصّ على ذلك الشّافعيّة وابن حزم، وقالوا‏:‏ يقيمها لهم من يصلح لها منهم أو من أهل البلد، ويتّجه وجوب نصبه على الحاكم، وروي عن ابن سيرين أنّه كان يقول بالجمعة على أهل السّجون، وخالفه إبراهيم النّخعيّ فقال‏:‏ ليس على أهل السّجون جمعة، وظاهر كلام الحنفيّة جواز فعل المحبوسين لها، فإن لم يقدروا صلّوا الظّهر فرادى‏.‏

تشغيل المحبوس

113 - للفقهاء ثلاثة أقوال في تمكين المحبوس من العمل في الحبس‏:‏ القول الأوّل‏:‏ لا يمنع المحبوس من العمل في حبسه ويمكّن من ذلك ‏;‏ لما فيه من أسباب النّفقة الواجبة ووفاء الدّين ونحوه، وهذا قول الشّافعيّة والحنابلة وغيرهم وبه أفتى بعض الحنفيّة‏.‏ القول الثّاني‏:‏ يمنع المحبوس من العمل في حبسه ولا يمكّن منه ‏;‏ لئلاّ يهون عليه الحبس وليضجر قلبه فينزجر، وإلاّ صار الحبس له بمنزلة الحانوت، وهذا هو المعتمد في مذهب الحنفيّة، وبه قال غيرهم من الفقهاء‏.‏ القول الثّالث‏:‏ يترك تمكين المحبوس من العمل في حبسه لتقدير الحاكم واجتهاده، وبه قال المرتضى‏.‏

أحكام بعض التّصرّفات المتعلّقة بالمحبوس

114 - ذكر الفقهاء العديد من أحكام بعض التّصرّفات المتّصلة بالمحبوس ممّا يتعلّق بالأمور الماليّة والمدنيّة والجنائيّة والأحوال الشّخصيّة وغيرها، وهذا بيانها على النّحو التّالي‏:‏ التّصرّفات الماليّة المتّصلة بالمحبوس‏:‏ بيع المحبوس ماله مكرها‏:‏

115 - للمحبوس التّصرّف بماله بيعا أو شراء ونحوه بحسب ما يرى ‏;‏ لأنّ الحبس لا يوجب بطلان أهليّة التّصرّف‏.‏ فإن أكره بالحبس على البيع أو الشّراء أو التّأجير فله الفسخ بعد زوال الإكراه لانعدام الرّضا‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح إكراه‏.‏

الرّجوع على المحبوس بالمال المدفوع عنه لتخليصه

116 - ذكر المالكيّة أنّ من حبسه السّلطان فدفع عنه قريبه ما خلّصه به من الحبس ثمّ سكت ولم يطالبه بالمدفوع حتّى مات، فقام ولده يطالب بالمدفوع وأنّه سلف، والمحبوس المفتدى يدّعي أنّه هبة، فالحكم أنّ على مدّعي الهبة البيّنة، ولا حجّة بسكوت الدّافع عنه، لأنّ ذلك دين لزم في ذمّته‏.‏ وذكر ابن تيميّة أنّه إذا أكره قريب أو صديق ونحوه على أداء مال عن محبوس فدفعه من ماله رجع به على المحبوس ولو من غير إذنه ‏;‏ لأنّ الإكراه والدّفع بسببه، فلا يذهب المال هدرا ‏;‏ ولأنّ النّفوس والأموال يعتريها من الضّرر والفساد ما لا يندفع إلاّ بأداء مال عنها‏.‏ ولو علم المؤدّي أنّه لا يستردّ ما دفعه من المحبوس إلاّ بإذنه لم يفعل، وإذا لم يقابل المحبوس الإحسان بمثله فهو ظالم، والظّلم حرام، والأصل في هذا اعتبار المقاصد والنّيّات في التّصرّفات‏.‏

رهن المفلس المحبوس ماله

117 - الأصل عدم تمكين المفلس المحبوس من التّصرّف بماله أو رهنه، فإن وقع تصرّفه لم يبطل بل يوقف على نظر الحاكم والغرماء‏.‏ وهذا قول الجمهور وصاحبي أبي حنيفة‏.‏ وقال الإمام أبو حنيفة‏:‏ لا يمنع من الرّهن وغيره من التّصرّفات، وإنّما للحاكم أن يستمرّ في حبسه ليضجره فيسارع إلى قضاء الدّين‏.‏

ما يجب على المودع إذا عجز عن ردّ الوديعة إلى مالكها المحبوس

118 - إذا طرأ عذر للمودع كسفر أو خوف حريق وهدم ردّ الوديعة إلى مالكها، فإن كان المالك محبوسا لا يصل إليه سلّمها إلى من يحفظ ماله عادة كزوجته وأجيره، وإلاّ دفعها إلى الحاكم‏.‏ فإن تعذّر ذلك أودعها ثقة وأشهد بيّنة على عذره ‏;‏ لأنّه يدّعي ضرورة مسقطة للضّمان بعد تحقّق السّبب، وهذا مذهب المالكيّة والشّافعيّة والصّاحبين، ومذهب الحنابلة في أحد الوجهين‏.‏ وقال أبو حنيفة‏:‏ له أن يسافر بها ما لم ينهه‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح‏:‏ ‏(‏وديعة‏)‏‏.‏

هبة المحبوس المحكوم بقتله ماله لغيره

119 - اتّفق الفقهاء على أنّ الأسير أو المحبوس عند من عادته القتل إذا وهب ماله لغيره لا تصحّ عطيّته إلاّ من الثّلث‏.‏ وتفصيل ذلك في أحكام مرض الموت‏.‏

تمكين المحبوس من وطء زوجته

120 - للفقهاء ثلاثة أقوال في تمكين المحبوس من وطء زوجته‏:‏ القول الأوّل‏:‏ لا يمنع المحبوس من وطء زوجته في الحبس إذا كان فيه موضع لا يطّلع عليه أحد وإلاّ منع، وهذا مذهب الحنابلة واستظهره أكثر الحنفيّة وهو قول بعض الشّافعيّة‏.‏ واستدلّوا لذلك بأنّه غير ممنوع من قضاء شهوة البطن فكذا شهوة الفرج، إذ لا موجب لسقوط حقّه في الوطء، واشترط بعضهم أن يصلح الموضع سكنا لمثل الزّوج أو الزّوجة‏.‏ القول الثّاني‏:‏ يمنع المحبوس من وطء زوجته ‏;‏ لأنّ من غايات الحبس إدخال الضّيق والضّجر على قلبه لردعه وزجره، ولا تضييق مع تمكينه من اللّذّة والتّنعّم والتّرفّه، والوطء إنّما هو لذلك، وليس من الحوائج الأصليّة كالطّعام‏.‏ وهذا مذهب المالكيّة وقول بعض الحنفيّة وبعض الشّافعيّة‏.‏ وزاد المالكيّة‏:‏ أنّ المحبوس لا يمنع من الاستمتاع بزوجته في مكان لا يطّلع عليه أحد إذا حبس بحقّها ‏;‏ لأنّها إذا شاءت لم تحبسه، فلا تفوّت عليه حقّه في الوطء‏.‏ القول الثّالث‏:‏ الأصل في وطء المحبوس زوجته أنّه حقّ من حقوقه المشروعة، ولا يمنع منه إلاّ إذا اقتضت ذلك المصلحة ورآه القاضي كما لو رأى منعه من محادثة الأصدقاء أو قفل باب الحبس عليه، وهذا قول بعض الشّافعيّة‏.‏

إنفاق المحبوس على زوجته

121 - لا يمنع الحبس من إنفاق المحبوس على زوجته ‏;‏ لأنّه وجد الاحتباس والتّمكين من جهتها، وما تعذّر فهو من جهته‏.‏ وقد فوّت حقّ نفسه فلا يمنع الحبس من الإنفاق عليها‏.‏ ونصّ بعض الشّافعيّة والحنابلة على أنّه لا نفقة للزّوجة إذا حبس الزّوج بحقّها لفوات التّمكين من قبلها‏.‏ وقال المالكيّة والحنفيّة‏:‏ لا تسقط النّفقة لاحتمال أن يكون معه مال وأخفاه عنها‏.‏

إنفاق الزّوج على زوجته المحبوسة

122 - يرى الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏:‏ أنّه لا تجب النّفقة على الزّوج لزوجته المحبوسة في دين ولو ظلما - بأن كانت معسرة - لفوات الاحتباس وكون الامتناع ليس من جهته‏.‏ ونصّ المالكيّة على أنّ لها النّفقة إن لم تكن مماطلة، سواء كان الحبس في دين الزّوج أو غيره ‏;‏ لأنّ الامتناع ليس من جهتها، وبنحو ذلك قال بعض الشّافعيّة‏.‏ وفرّق النّوويّ بين حبس الزّوجة المقرّة بدين فلا نفقة لها على زوجها وبين حبس من قامت البيّنة على استدانتها فلها النّفقة‏.‏ ونصّ الحنفيّة على أنّه لا تلزم الزّوج نفقة زوجته المحبوسة بسبب ردّتها‏.‏

احتساب مدّة حبس الزّوج أو الزّوجة في الإيلاء

123 - إذا آلى الزّوج من زوجته وكان محبوسا بحقّ يقدر على أدائه حسبت عليه المدّة من حين إيلائه ‏;‏ لأنّ المانع من جهته وليست من جهتها‏.‏ وإن طرأ الحبس بعد الإيلاء لم تنقطع المدّة بل تحسب أيضا، وهذا قول جمهور الفقهاء‏.‏ أمّا إذا كانت زوجة المولي محبوسة أو طرأ الحبس عليها بعد الإيلاء فليس لها المطالبة بالفيئة، ولا تحسب مدّة الحبس من مهلة الأشهر الأربعة لتعذّر الوطء من جهتها كالمريضة، وتستأنف المدّة عند زوال العذر‏.‏ وهذا قول جمهور الفقهاء والقول المعتمد عند الحنابلة‏.‏ وفي قول آخر لهم‏:‏ إنّ الحبس يحتسب كالحيض‏.‏

فيئة المحبوس من الإيلاء إذا تعذّر عليه الوطء

124 - الأصل أن تحصل الفيئة من الإيلاء بالوطء باتّفاق الفقهاء‏.‏ فإن كان المولي محبوسا وتعذّر عليه الوطء ففيئته بلسانه كأن يقول‏:‏ فئت إليها أو متى قدرت فعلته يعني الوطء‏.‏ وإذا كانت المحبوسة زوجته يكون الفيء بالوعد بلسانه أن يفعله إذا زال المانع وهذا قول جمهور الفقهاء وابن مسعود وجابر بن عبد اللّه والنّخعيّ والحسن والزّهريّ والثّوريّ والأوزاعيّ وأبي عبيد وعكرمة بن عبد اللّه مولى ابن عبّاس‏.‏ واشترطوا أن يكون المحبوس مظلوما غير قادر على الخلاص وإلاّ ففيئته بالوطء‏.‏ وقال سعيد بن جبير‏:‏ لا يكون الفيء إلاّ بالجماع في حال العذر وغيره‏.‏

تأخير المحبوس ملاعنة زوجته ونفيه الولد

125 - يشترط في اللّعان الفوريّة وعدم تأخير الزّوج نفي الولد حال العلم بذلك إذا لم يكن عذر‏.‏ ونصّ الحنابلة والشّافعيّة وهو مقتضى كلام غيرهم أنّ الحبس من أعذار تأخير اللّعان‏.‏ فإن كانت مدّة الحبس قصيرة كيوم أو يومين فأخّر المحبوس نفيه ليلا عن أمام الحاكم لم يسقط نفيه بالتّأخير‏.‏ وإن كانت المدّة طويلة أرسل إلى الحاكم ليبعث إليه نائبا يلاعن عنده‏.‏ فإن لم يمكنه ذلك أشهد على نفيه، فإن لم يفعل سقط نفيه وبطل خياره لأنّ عدم تصرّفه يتضمّن إقراره بالنّسب‏.‏ وتفصيل ذلك مصطلح‏:‏ ‏(‏لعان‏)‏‏.‏

التّصرّفات القضائيّة والحكميّة المتّصلة بالمحبوس‏:‏ خروج المحبوس لسماع الدّعوى عليه عند القاضي أو تعذّر ذلك‏:‏

126 - إذا ادّعى رجل على محبوس حقّا يخرجه القاضي لسماع الدّعوى عليه والإجابة عنها ثمّ يردّه إلى الحبس ولا يوكّل عنه أحدا في الخصومة عند غير المالكيّة، فإن تعذّر على المحبوس الخروج جاز له استحسانا توكيل من يجيب عنه‏.‏

خروج المحبوس للشّهادة عند القاضي أو تعذّر ذلك

127 - إذا منع المحبوس من الخروج لأداء الشّهادة عند القاضي جاز له استحسانا توكيل من يشهد على شهادته‏.‏

127 م - إجابة دعوة المحبوس للإشهاد على تصرّفه‏:‏ نصّ الشّافعيّة على أنّ المحبوس إذا دعا رجلا ليشهده على تصرّفه فإنّه يجب عليه الإجابة لأجل عذر المحبوس وحتّى لا تضيع الحقوق‏.‏

ما لا يجوز تأديب المحبوس به

128 - شرع التّأديب للتّقويم والإصلاح لا الإهانة والإتلاف واحتقار معاني الآدميّة، وقد نصّ الفقهاء على حرمة المعاقبة للمحبوس أو غيره بعدّة أمور منها‏:‏

أ - التّمثيل بالجسم‏:‏

129 - لا تجوز المعاقبة بجدع أنف، أو أذن، أو اصطلام شفة، وقطع أنامل، وكسر عظم، ولم يعهد شيء من ذلك عن أحد الصّحابة ‏;‏ ولأنّ الواجب التّأديب، وهو لا يكون بالإتلاف‏.‏ وقد ‏{‏نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن التّمثيل بالأسرى فقال في وصيّته لأمراء السّرايا‏:‏ ولا تمثّلوا‏}‏‏.‏

ب - ‏(‏ضرب الوجه ونحوه‏)‏‏:‏

130 - لا يجوز للحاكم التّأديب بما فيه الإهانة والخطر، كضرب الوجه وموضع المقاتل، وكذا جعل الأغلال في أعناق المحبوسين، وكذا لا يجوز أن يمدّ المحبوس على الأرض عند ضربه، سواء كان للحدّ أو التّعزير على ما تقدّم‏.‏

ج - التّعذيب بالنّار ونحوها‏:‏

131 - يحرم التّأديب بإحراق الجسم أو بعضه بقصد الإيلام والتّوجيع إلاّ المماثلة في العقوبة فتجوز عند كثير من الفقهاء‏.‏ ولا يجوز خنق المحبوس وعصره وغطّه في الماء‏.‏

د - ‏(‏التّجويع والتّعريض للبرد ونحوه‏)‏‏:‏

132 - لا يجوز الحبس في مكان يمنع فيه المحبوس الطّعام والشّراب، أو في مكان حارّ أو تحت الشّمس أو في مكان بارد، أو في بيت تسدّ نوافذه وفيه دخان أو يمنع من الملابس في البرد‏.‏ فإن مات المحبوس فالدّية على الحابس وقيل‏:‏ القود‏.‏

هـ - ‏(‏التّجريد من الملابس‏)‏‏:‏

133 - تحرم المعاقبة بالتّجريد من الثّياب لما في ذلك من كشف العورة‏.‏

و - ‏(‏المنع من الوضوء والصّلاة ونحوها‏)‏‏:‏

134 - ينبغي تمكين المحبوس من الوضوء والصّلاة، ولا تجوز معاقبته بالمنع منهما‏.‏ ونصّوا على أنّه لا يجوز منع المحبوس من قضاء حاجته‏.‏

ز - ‏(‏السّبّ والشّتم‏)‏‏:‏

135 - لا يجوز للإمام أو غيره التّأديب باللّعن والسّبّ الفاحش وسبّ الآباء والأمّهات ونحو ذلك‏.‏ ويجوز التّأديب بقوله‏:‏ يا ظالم يا معتدي ونحوه‏.‏

ح - أمور أخرى تحرم المعاقبة بها‏:‏

136 - تحرم المعاقبة بالإقامة في الشّمس أو صبّ الزّيت على الرّءوس أو حلق اللّحية وكذا إغراء الحيوان كالسّبع والعقرب بالمحبوس ليؤذيه‏.‏ وسئل مالك عن تعذيب المحبوس بالدّهن والخنافس ‏(‏حشرات سوداء كالجعل‏)‏ فقال‏:‏ لا يحلّ هذا، إنّما هو السّوط أو السّجن‏.‏ وفي الجملة لا تجوز معاقبة المحبوس بقصد إتلافه كلّه أو بعضه ‏;‏ لأنّ التّأديب لا يكون بذلك‏.‏

إخراج المحبوس لإصابته بالجنون

137 - نصّ المالكيّة على أنّ المحبوس إذا ذهب عقله وجنّ فإنّه يخرج من الحبس لعدم إدراكه الضّيّق المقصود من حبسه، ويستمرّ خروجه إلى أن يعود له عقله‏.‏ فإن عاد له عقله عاد للحبس، وهذا مذهب الحنفيّة والشّافعيّة‏.‏ وذهب الحنابلة وأبو بكر الإسكافيّ من الحنفيّة إلى أنّ الجنون لا يمنع التّعزير - والحبس فرد من أفراده لأنّ الغاية منه التّأديب والزّجر، فإن تعطّل جانب التّأديب بالجنون فلا ينبغي تعطّل جانب الزّجر معا للغير‏.‏

هروب المحبوس

138 - ذكر الفقهاء غير الشّافعيّة أنّ السّجّان ونحوه ممّن استحفظ على بدن المحبوس المدين بمنزلة كفيل الوجه، ويترتّب عليه إحضاره للخصومة، فإن أطلقه وتعذّر إحضاره ضمن ما عليه، وعند الشّافعيّة‏:‏ إن هرب يحضره الدّائن‏.‏ وإذا أراد المحبوس الهرب وهجم على حارسه ليؤذيه فإنّه يعامله كالصّائل وقد ذكر الفقهاء أنّ الصّائل يوعظ ويزجر ويخوّف ويناشد باللّه لعلّه يكفّ عن الأذى والعدوان‏.‏ فإن لم ينكفّ وأراد نفس الحارس أو ماله فيدفعه بأسهل ما يعلم دفعه به كالضّرب ونحوه‏.‏ فإن لم يحصل إلاّ بالقتل فله ذلك ولا شيء عليه، غير أنّه لا يجوز للمصول عليه جرح الصّائل إن قدر على الهرب منه بلا مشقّة تلحقه ارتكابا لأخفّ الضّررين‏.‏ وقد قال ابن تيميّة في جند قاتلوا عربا نهبوا أموال تجّار ليردّوه إليهم‏:‏ هم مجاهدون في سبيل اللّه، ولا ضمان عليهم بقود ولا دية ولا كفّارة‏.‏ وقال ابن الجوزيّ‏:‏ لا يسقط الأمر عن الجنديّ بظنّه أنّه لا يفيد‏.‏

صفات السّجّان ونحوه

أ - ‏(‏الأمانة‏)‏‏:‏

139 - الأمانة هي الثّقة، وقد ذكر الفقهاء أنّ من صفات السّجّان كونه ثقة ليحافظ على المحبوسين ويتابع أحوالهم‏.‏

ب - الكياسة‏:‏

140 - الكياسة هي العقل والفطنة وذكاء القلب، وقد جاءت هي والّتي قبلها في قول عليّ رضي الله عنه ألا تراني كيّسا مكيّسا بنيت بعد نافع مخيسا بابا حصينا وأمينا كيّسا، والأمين والكيّس صفتان للسّجّان‏.‏ ح - الصّلاح‏:‏

141 - ينبغي أن يكون مباشر الحبس معروفا بالخير والصّلاح ويتأكّد ذلك في مباشر سجن النّساء‏.‏

د - ‏(‏الرّفق‏)‏‏:‏

142 - من صفات السّجّان الرّفق بالمحبوسين لئلاّ يظلمهم ويمنعهم ممّا لا يقتضيه الحبس‏.‏

هـ - اللّياقة البدنيّة‏:‏

143 - استعمل عليّ رضي الله عنه قوما من السّبابجة في حراسة السّجون، وكانوا قد استوطنوا البصرة وعرفوا بقوّة أجسامهم‏.‏

مراقبة الدّولة السّجون وإصلاحها‏.‏

144 - ذكر أبو يوسف أنّه ينبغي تتبّع المحبوسين والنّظر فيها من غير كلل ولا تقصير واتّباع العدل معهم وعدم الاعتداء عليهم‏.‏ والفقهاء على أنّ أوّل عمل يبدؤه القاضي - حين تولّيه القضاء - النّظر في السّجون والبحث في أحوال المحبوسين‏.‏ بل ذهب بعضهم إلى وجوب ذلك لأنّ الحبس عذاب فيقدّم على ما سواه‏.‏ وقالوا‏:‏ لا يحتاج في تصفّح أحوالهم إلى متظلّم إليه لعجز المحبوسين عن ذلك‏.‏

حبل الحبلة

التّعريف

1 - الحبل بفتح الموحّدة‏:‏ مصدر‏:‏ حبلت المرأة تحبل ويستعمل لكلّ بهيمة تلد إذا حملت بالولد، والوصف‏:‏ حبلى والجمع حبليات، وحبالى‏.‏ والحبلة‏:‏ جمع حابلة بالتّاء‏.‏ قال أبو عبيد‏:‏ حبل الحبلة‏:‏ ولد الجنين الّذي في بطن النّاقة ولهذا قيل‏:‏ ‏(‏الحبلة‏)‏ بالهاء لأنّها أنثى، فإذا ولدت فولدها ‏(‏حبل‏)‏ بغير هاء‏.‏ وفي الاصطلاح‏:‏ هو نتاج النّتاج، بأن تستولد الدّابّة، ثمّ تستولد ابنتها‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

الملاقيح‏:‏

2 - وهي ما في بطون الأمّهات من الأجنّة‏.‏

المضامين‏:‏

3 - وهي ما في أصلاب الفحول‏.‏

الحكم التّكليفيّ

4 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ بيع حبل الحبلة حرام والعقد باطل‏.‏ لحديث‏:‏ ابن عمر رضي الله عنهما‏:‏ قال‏:‏ ‏{‏نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ عن بيع حبل الحبلة‏}‏‏.‏ وكان - كما قال ابن عمر - بيعا يتبايعه أهل الجاهليّة‏:‏ كان الرّجل يبتاع الجزور إلى أن تنتج النّاقة، ثمّ تنتج الّتي في بطنها‏.‏ المعنى المنهيّ عنه‏:‏ اختلف الفقهاء في المعنى المنهيّ عنه في الحديث لاختلاف الرّوايات‏:‏ فذهب الحنفيّة إلى أنّ المنهيّ عنه هو‏:‏ بيع ما سوف يحمله الحمل بعد أن يولد ويحمل ويلد وهو نتاج النّتاج‏.‏ وسبب النّهي على هذا الرّأي‏:‏ أنّه بيع معدوم وغير مقدور على تسليمه، وهو قول عند الشّافعيّة‏.‏ وقال المالكيّة والشّافعيّة‏:‏ إنّ المعنى المنهيّ عنه هو بيع الجزور بثمن مؤجّل إلى أن تنتج النّاقة، وتنتج الّتي في بطنها، وسبب النّهي هو‏:‏ أنّه بيع إلى أجل مجهول‏.‏ وكلا البيعين باطل باتّفاق الفقهاء، لأنّه من بيوع الغرر‏.‏ وقال الحنابلة بكلّ من التّفسيرين، وحكموا بفساد البيع لكلّ منهما للسّببين المذكورين‏.‏

حبلى

انظر‏:‏ حامل‏.‏

حتم

انظر‏:‏ حكم‏.‏